المحلّق إلى ذرى الشعر… أسقطته السياسة
جورج كعدي
نحّات لغة وصورة في القصيدة سعيد عقل. ساحر مفردات وحروف وإيقاعات. برناسيّ حتّى العظم، يظلّ ينحت في الشكل حتى يُطلع منه الأبهى الذي يشبه تمثالاً من رخام غاية في الروعة من الخارج، إنّما على بعض خواء داخليّ لناحية المعنى وعمقه و«خطورته» إن جاز التعبير. قصيدته تشبه تمثال فينوس، إلهة الجمال والحسن، التي يعوزها الروح والحياة تمثالاً.
سعيد عقل شاعر بلاغة وبيان، لا جدال في ذلك. «جوهرجيّ» كلمات، صانع قوالب مبهرة، «شكلانيّ» معلّم، إنّما لو بحثتَ في شعره عن معاناة أو وجع أو مجرّد تحسّس لآلام البشر لما وجدتَ شيئاً من ذلك، فهو نفسه القائل إنّه «شاعر فرح»، فيما تراث الشعر الإنسانيّ كلّه، شرقاً وغرباً، قائم على الوجدان المتألّم والحسّ المأسويّ، وهذان افتقدهما الشاعر الغائب كثيراً في شعره الذي فاض فيه الشكل والشكلانيّة على المضمون والمعاني العميقة التي تحاكي النفس المتعبة وتهبها بعض الهدى والعزاء، في حين تبهرنا اللغة وتبقينا عند لمعانها «البرّاني».
رغم ذلك، لا يمكن في أيّ حال التنكّر لشعريّة سعيد عقل، التي لها «أتباعها» ومريدوها الكثر، ولا يمكن كذلك التغاضي عن شهرة له أطبقت الآفاق وإن بقدر من المبالغة، فالشاعر الراحل الذي كرّس حياته لمجد الشعر وروعة البلاغة، عقد قراناً على القصيدة وأفنى عقوداً مديدة في عشقها، كتاباً ومنبراً وتلميعاً للصورة و«الأنا» المتعاظمة التي أوقعته في أخطاء سياسيّة، بل خطايا ارتكبها بالرأي والشعار السياسيّين، وما كان لائقاً به شاعراً مكرّساً أن يعرّض نقاء صورته الشعريّة للأذى والتشويه، إذ ألّب ضدّه نصف قادريه على الأقلّ، بسبب مواقفه السياسيّة الرعناء، رحمه الله وسامحه، التي ليست من شيم الشعر والشعراء، فهؤلاء هم الأكثر رفعةً وسموّاً وزهداً وإنسانيّةً وانفتاحاً وتقبّلاً وموضوعيّة، وهم على مسافة واحدة من الجميع، دعاة وفاق وسلام. لكنّ الشاعر الغائب شاء بعُظامه المعروف الهبوط من عبقر الشعر إلى وحول السياسة فتقلّبت أهواؤه وتبدّلت، من أقصى الالتزام بالعقيدة السوريّة الاجتماعيّة في شبابه، إلى أقصى الشوفينيّة اللبنانيّة المريضة والمنغلقة في القسم الأكبر من حياته، ما يدعو إلى السؤال ويستدعي الريبة حول «مبادئ» الراحل وإن كان يملك وضوحاً أو ثباتاً فيها، أم كان التقلّب الغريب جزءاً من تكوينه النفسيّ والثقافيّ غير الثابت على معتقد واحد، أو على حياديّة موضوعية تسم الشاعر في أقلّ تقدير.
رحمة الله على سعيد عقل الذي أبدع في الشعر وحلّق، وأخفق في السياسة وهبط من علياء القصيدة الشكلانيّة التي كان عرشها مستحقّاً له.