الأمين أحمد السيّد المناضل حتى الرمق الأخير

الرفيق جان الدايه

عرفتهُ بدايةً، في دمشق والتقيتُ به كثيراً، ثم في زياراته إلى مركز الحزب في بيروت، وكان يلفتني فيه حيويته، ذكاءه، التزامه الصادق بالحزب، وتفانيه بالعمل الحزبي.

ما كتبه الرفيق جان دايه في عدد أول أيار عام 2005 في مجلة «البناء – صباح الخير» يضيء جيداً على مسيرة الأمين أحمد السيد الذي اسجل له أنه كان قومياً اجتماعياً حقيقياً في التزامه وأدائه ومسيرته.

ل.ن.

أحمد السيد الشامي اللبناني والمحمدي المسيحي

كل قومي إجتماعي مؤمن هو مسيحي ومحمدي في آن، باعتبار أنه موافق على مقولة سعادة: « كلنا مسلمون لرب العالمين. فمنا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن.. إلخ» كذلك، فإن كل قومي اجتماعي آمن بمادئ سعادة الأساسيّة المتمحورة على وحدة سورية الطبيعية، يؤمن، ليس فقط بأنه شامي ولبناني، بل أيضاً فلسطيني وأردني وكويتي وعراقي، ولا أقفز من فوق كلمة «قبرصي» رغم تعليقات المتظارفين السمجة!

فلماذا أنوّه بلبنانية الأمين أحمد السيد ومسيحيته، بمناسبة رحيله؟

التقيت بالأمين النحيل والنابوليني القامة، لأول مرة في الشقة الرأس بيروتية التي كان يقيم فيها الرفيق والمخرج التلفزيوني في السعودية منذر النفوري طوال فصل الصيف، في الستينات من القرن الماضي. وعلمت من خلال اللقاءات المتكررة التي كانت تجمع عشرات الرفقاء أيضاً من دمشق- ناظم دهشان، فاروق الشكر، رفعت بنيان، الخ… أن أحمد راسخ الإيمان بعقيدة سعادة ومعبّر عنها بوضوح وطلاقة، ومستعد أن يضحي بحريته ودمائه في سبيل نصرتها، وقد برهن على عدم تردده في التضحية، حين اشترك في الخمسينات في إحدى المحاولات الانقلابية واعتقل وحوكم وسجن، وكان صلباً خلال التحقيق والمحاكمة والسجن. كذلك، تأكد لي أن الأمين الراحل كان تقنياً بارعاً في حقل الخراطة حيث احتل رأس قائمة التقنيين الدمشقيين في هذا المجال. ولكن نكبة الحزب التي نجمت عن مصرع المالكي، قد تولّت إقفال مصنع أحمد السيد، وسبّبت له طفراً دائماً ومتفاقماً حتى اللحظة الأخيرة من حياته، وبالمناسبة، فقد علمت أيضاً أن الرفيق الصديق كان معجباً بإحدى رفات جناح جبران خليل جبران التي يؤكد فيها أن النسيان فضيلة. وروى أحد الرفقاء – وأظنه ناظم دهشان – أن أحمد قال ذات مرة لوالدته قبيل مغادرة المنزل باتجاه مقهى الروضة في دمشق الذي أدمن على ارتياده: إذا سأل عني أحد أنا في الروضة! وهبط درج منزله المتواضع في الحي الشعبي الكائن وراء مدافن الدحداح في شارع بغداد. ولكنه نسيَ شيئاً كالعادة. فعاد لتوه. كبس الجرس. أجابت أمه: مين؟ قال: أحمد! أجابت: ليس هنا تجده في الروضة! فقفل مسرعاً إلى المقهى الشعبي ناسياً أنه هو نفسه على حد تأكيد ناظم. والجدير أن أحمد اكتفى بالضحك حين كان ناظم يروي وقائع الحادثة الطريفة التي فلفلها وبهّرها كعادته.

وعلى ذكر الطفر، فإن تحمّل أحمد لنتائجه كان ملفتاً. وبالطبع كان ذلك يسبّب له الماً نفسياً، خصوصاً إذا كان بصدد شراء كتاب جديد، وهو المعروف بعشقه للكتب. لذلك بدا عليه القلق وكدت أقول الألم، حين دخل القاعة التي كانت توقّع فيها الأمينة اليسار سعادة مذكرات والدتها الأمينة الأولى، إذ كان سعر النسخة خمسماية ليرة شامية. وأحمد لا يملك ليرة واحدة من أصل الخمسماية. وفي خضم المدّ البشري الذي اجتاح القاعة في ساحة العباسيين، امتدت يد خفية إلى جيب زير الكتاب ودسّت الورقة النقدية المطلوبة. وغادر الأمين المريض القاعة سعيداً فرحا، ليس فقط لأنه امتلك مذكرات الأمينة الأولى، بل ايضاً لأن النسخة احتضنت إهداء مناسباً بخط الأمينة اليسار. ومن المرجّح، بل المؤكد، أن أحمد قرأ المذكرات أكثر من مرة، وبكى عشرات المرات أسوة بمعظم الذين قرأوها في الوطن وعبر الحدود.

ولنعد إلى عنوان المقال والسؤال الخاص بلبنانية أحمد ومسيحيته وهو الشامي المحمدي حسب خريطة سايكس – بيكو وملاحقها وتداعياتها الطائفية والاتنية.

ذات يوم في آواخر الستينات، زارني أحمد في انطلياس، ورمى على الطاولة تذكرة هوية لبنانية، ولسان حاله يقول: والدتي ترغب في التواصل مع اهلها بعد انقطاع دام أكثر من نصف قرن، وهذه هويتها التي ربما تساعدك في اكتشاف أهلها ومسقط رأسها! ولما كنت أرى أم أحمد حين ازور إبنها، وهي ترتدي اللباس الدمشقي التقليدي الذي كان يرتديه الممثل أنور البابا حين يكون بصدد تقمّص شخصية أم كامل..

فقد صعقت حين قرأت في الهوية العتيقة، غير المزورة طبعاً، أن أم أحمد من آل سكاف، ومن إحدى بلدات البقاع الغربي، وخلال ذلك روى لي أحمد كيف عثر والده، هو الشيخ المعمم، على الفتاة البقاعية السكافيّة الضائعة في دمشق، فآواها ثم تزوّجها. بعد أسبوع، هتف لي منفذ عام البقاع الغربي، وبشّرني بالعثور على أقرباء أم أحمد، وللتعويض عما فات خلال نصف قرن، تواصلت الزيارات بين البقاع الغربي ودمشق، وكانت تاكسي «أبو دياب» شقيق أحمد في طليعة السيارات المحجوزة للقاء الاقرباء. وفي إحدى المرات، «سافرت» من بيروت بصحبة أحمد، في سيارة «أبو دياب». وتوقفت بنا في شتورا، وما هي إلا دقائق، حتى وصلت «أم أحمد» مع مواكبة عشرات الأقرباء من البقاع الغربي. وفي الطريق إلى دمشق، سألتُ أم أحمد عن شعورها بلقاء أهلها بعد طوال انقطاع، فقالت: الحمدلله. قلت: وهل كان الانسجام تاما؟ قالت: نسبة 98 . أضافت: هناك فارق بسيط تجلَّى في الأصوات المرتفعة للأهل وهم يتهامسون. وثمة فارق آخير غير بسيط، وهو أن النساء قبل الرجال يتداولن المسبات من العيار الثقيل، خلال ارتشافهن فناجين القهوة المرة.

يبقى أني أجهل تاريخ لقائي الأول بالأمين المجاهد أحمد السيد. ولكني أعرف جيداً تاريخ لقائي الأخير به. فقد كنت متجهاً من إنطلياس إلى دمشق، كعادتي كل اسبوع. لم أكن عارفاً برحيل أحمد الذي انتقل منذ عامين من منزله في الشارع الموازي لشارع بغداد، رأيت رتلاً من السيارات تتقدمها سيارة تنقل نعشاً ومغطاة بأكليل من الزهر وقد «نقشت» عليها الزوابع، ورأيتني أعزي نفسي برحيل أحمد وبالعبارة المعهودة: البقاء للأمة. ولم يخطئ حدسي فبعد دقائق، التقيت بأحد الأمناء، فبادرني بالقول: البقاء للأمة!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى