يبرود… عمر الإنسان الحجري والمسكن الأول له

إعداد لورا محمود

امتازت سورية موطن الإنسان الأول بتنوّع طبيعتها الجغرافية، وغنى الحضارات التي أقامت فيها، فعلى امتداد الجغرافية السورية نشهد تنوّعاً في آثارها وأراضيها، لا سيما الأراضي الكلسية الصخرية التي اشتهرت بها مناطق كثيرة. فيبرود البلدة الواقعة في الشمال من مدينة دمشق بحوالى 80 كلم، زاخرة بالكثير من المغاور والملاجئ الصخرية التي كانت في ما مضى سكناً للإنسان القديم، ودلت الحفريات الأثرية التي أجريت طوال القرن الماضي أنّ أقدم سكن في سورية وربما في الشرق عموماً كان في مغاور يبرود، إذ وجدت فيها آثار تعود إلى مليون سنة.

وقد أضفت هذه المغاور وغيرها من الشواهد الأثرية مسحة تواصلية في الزمان والمكان جعلت من سورية منذ ما قبل التاريخ محور العالم القديم، الأمر الذي دفع بمجموعات من الباحثين والمنقبين على مدى القرن العشرين إلى دراسة المكان والتنقيب فيه بغرض البحث عن دلائل تاريخية تثبت تاريخ الاستيطان في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص والعالم بشكل عام

أثبت علماء التاريخ أنّ الحضارة اليبرودية أقدم مكان استوطنه إنسان ما قبل التاريخ وأقام فيه أهمّ حضاراته الحجرية حيث توافرت في المكان أهمّ شروط الحياة البشرية كالماء والغذاء والملجأ الصخري، ولعلّ أهمّ مثال حيّ على هذه الملاجئ وادي إسكفتا في يبرود أشهر وديان الشرق الأدنى في عصور ما قبل التاريخ الذي ثبت أنه كان موطناً لإنسان العصور الحجرية القديمة منذ ما يزيد عن 300 ألف سنة، كما أثبتت المكتشفات الأثرية في هذا الوادي أنّ إنسان يبرود أقام أعظم حضارة حجرية صوانية في التاريخ البشري، وهذا ما أثبتته البعثة التابعة لجامعة كولومبيا عام 1964 والبعثة اليابانية عام 1987.

ومن الآثار التي عُثر عليها بجانب ملاجئ ومغاور يبرود المقابر الجماعية والفردية المحفورة في أعماق الصخور على شكل هندسي بارع، وهي تشير بوضوح إلى وجود مجتمع راقٍ في تلك العصور الغابرة يتمتع بذوق فني كبير، وخصوبة في الحياة الفكرية، والمعتقدات الدينية، ومنها اهتمامه الكبير بدفن موتاه في هذه المقابر الرائعة في تصميمها، ويتألف كل قبر ناووس من غرفة صغيرة لها ثلاثة أقواس أو أكثر، وأسفل كلّ قوس مدفن أو مدفنان، وكلها محفورة في الصخور الصلبة، وقد ضمّت هذه المدافن رفات حكام وأفراد أسر أرستقراطية حاكمة استوطنت هذه المنطقة ويصف العالم الألماني الفريد روست الذي يعود إليه الفضل في اكتشاف الأهمية التاريخية والأثرية ليبرود في كتابه الشهير مكتشفات مغاور يبرود أحد هذه القبور قائلاً: كان القبر منحوتاً في الصخر داخل جوف جدار شديد الانحدار، بارتفاع قامة الرجل وعلى جانبيها قاعدة تابوت، ويُدخل من فتحة مماثلة أخرى إلى حجرة رئيسية فيه مساحتها عشرة أمتار مربعة، وهي ذات أرضية مستوية، وفيها ثلاث فجوات جدارية، وتتسع لعشرة توابيت منحوتة في الصخر. وتمّ العثور في هذه القبور على العديد من الأسلحة وأدوات الطعام والشراب، والسرج الفخارية، وأدوات الزينة، وفي هذا إشارة إلى أنّ المجتمع اليبرودي كما المجتمع التدمري تماماً كان يؤمن بالبعث بعد الموت مع الفارق الزمني الكبير بين الحضارتين.

تاريخ يبرود

يبرود كلمة آرامية ورد ذكرها في كتابات الرقم الفخارية في بلاد ما بين النهرين، وذكر اسم يبرود في كتاب البلدان الذي وضعه الجغرافي اليوناني بطليموس القلوذي الذي عاش في القرن الثاني للميلاد. أصبحت يبرود في العهد الروماني مركزاً عسكرياً، ويستدلّ على ذلك من بقايا أحد الحصون الرومانية الذي لا تزال بقاياه ظاهرة إلى اليوم.

تعتبر كنيسة يبرود من أقدم المعالم الأثرية في سورية، ففي بداية الألفية الأولى قبل الميلاد أصبحت يبرود مركزاً لإحدى الممالك الآرامية في سورية وبلاد الشام وازدهرت هذه المملكة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وتمّ بناء أكبر وأفخم معابد الشمس في البلاد في وسط المدينة بسعة كبيرة قياساً إلى معابد تلك الفترة، فقد تحوّل المعبد بعد الاحتلال الروماني لبلاد الشام إلى معبد لعبادة جوبيتر كبير آلهة الرومان آنذاك، عام 331م تحوّل هذا المعبد الوثني إلى كاتدرائية مسيحية باسم القديسين «قسطنطين وهيلانة»، والذي سمح بالحرية الدينية في البلاد.

لا تزال الدراسات حول مسألة تحديد عمر الإنسان الحجري في يبرود بين أخذ وردّ، هل هو قبل إنسان النياندرتال أم بعده، أم أنّ إنسان يبرود عاصر إنسان النياندرتال في حقبة من حقبات العصور الحجرية الوسيطة. ولكن الآراء ترجّح أنّ إنسان يبرود قد سبق الإنسان النياندرتالي على الغالب، والدليل الواضح على ذلك أنّ سكان مغاور وملاجئ وادي إسكفتا في يبرود، وبخاصة الملجأ الأول قد استوطنوا المكان على امتداد زمن يزيد على 150 ألف سنة، إضافة إلى 25 مجموعة بشرية لكلّ منها حضارتها الخاصة، وأكثرها أصالة كانت الجماعات اليبرودية التي دلت عليها أدواتها الصوانية، وعثر في مغاور يبرود على عظام وآثار قوائم حيوانية تشير إلى وجود حياة بيئية متنوّعة، منذ أقدم العصور، وكذلك عثر في الملاجئ على البقايا الإنسانية الوحيدة في يبرود ومنها قطعتان من هيكل بشري، لم يتمكن الخبراء حتى الآن من تحديد عمرهما، لكنهما في الغالب تعودان إلى العصر الحجري الحديث.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى