للخروج من فصل الجحيم وتأسيس فصل القيامة

نزار سلوم

ماذا يعني أن نحتفل بمرور أكثر من ثمانية عقود على تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي؟

بل… ماذا يعني أن يجتمع أعضاء الحزب وتياره وأصدقاء له في الوطن والمغتربات للاحتفال بهذه المناسبة؟

هل نجتمع وفاءً لـ«عزيز» قضى، ولنتبادل سرد أفعاله الحميدة ونتذكر أخلاقه الرفيعة، ولا بأس بتذكر مواقفه الطريفة والظريفة. ثم نترحم عليه قبل أن نفضّ جمعتنا؟

من المؤكد، أننا نجتمع هنا كما يجتمع رفقاء وأصدقاء لنا في غير مكان في هذا العالم، ليس لهذا الغرض أبداً، ليس للذكرى… وبالطبع ليس للترحّم، بل لتجديد الثقة بأنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية التي أسّسها وفداها بدمائه السوري العظيم انطون سعاده، هي مشروع المستقبل، مشروع مستقبل إنساننا ومجتمعنا وأمتنا.

أقول ذلك، وربما بعضكم يُرجع قولي إلى فعل إيماني بالحزب وأنا عضو من أعضائه… وهذا صحيح حتماً، ولكني حتى لا أتلو قانون الإيمان الخاص بالمنتمي للحزب، سأنسحب عامداً من هيكل الإيمان إلى عراء البحث وآلياته… الى فناء الواقع القائم، لأستبدل الإيمان بالزعم، وأقول:

إني ازعم أنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية لا تزال هي مشروع سورية. وأرجو أن أوفّق في إيصال زعمي العلمي الشكّاك هذا إلى عتبات هيكل إيماني ويقينياته، فلا أتجاهل أو أسخر من شكّاك علميّ يعيش فيّ، وله الحق، ولا أجرح مشاعر مؤمن مجاهد في ملكوت النهضة.

وكلاهما: المؤمن والشكّاك، يقفان سوية الآن في حضرة الخراب الكبير الذي يحلّ بأمتنا… كما لم يحلّ بها من قبل.

أهو خرابٌ فعلاً ذلك الذي يحلّ بأمتنا؟ أهو خراب وحسب؟ حرب وتدمير وكفى؟

منذ سنوات عدّة، لعلها عديدة البدايات، بدأ فصل الجحيم السوري الراهن، جحيم كامل الأوصاف بمناخاته وكائناته وألوانه وأشكاله وشياطينه وأبالسته… بالأفاعي الهائجة والمتآلفة سكراً مع جرذانه التي تموج فيه هائجةً محمّلة بطاعون الحقد الكالح السواد ذي الأنياب الأسطورية. الذي يهوي على الإنسان وعمارته وحضارته وثقافته تدميراً وتفتيتاً ومضغاً والتهاماً وحشياً دون شبع… دون شبع حتماً!

جحيم /تنين برؤوس متعددة/ بل برؤوس غير قابلة للعدّ تنفث نارها ودخانها في كلّ حدب وصوب…

نار من نار… ونار من عقل أسود… ونار من مصالح كبرى… ونار من رمضاء صحارى قاحلة قاتلة للحياة، وحاقدة على الحياة.

جحيم: يجلس شياطينه/سادته على عروشهم المستوية على جماجمنا فيتغاوون بدمائنا القانية… دماؤنا… بلى أمست نبيذ الجحيم المفضّل… نبيذ سائل دون توقف… وشهوات هائجة دون شبع… دون شبع حتماً… وشياطين/سادة يزيّنون موائدهم برؤوسنا المقطوعة وقلوبنا المخلوعة من دواخلنا… ويمارسون رياضة فقء عيوننا وثملها وهواية تقطيع أصابعنا وجمعها لرميها لكلاب الجحيم كلما عوت واشتدّ جوعها.

جحيم…؟ لا… لن أكمل الوصف يجب أن أتوقف كي أخرج من هذا الجحيم… لبعض الوقت ربما… لنتأمّل في ما تكشّف عنه في هذا الفصل القاتل…

إنّ قراءة للأحداث التي تجري في أمتنا، ذات مستويين وصفي وتحليلي توصلنا إلى أنّ أمتنا، ربما، في أخطر مرحلة في تاريخها… تاريخها الطويل الممتدّ إلى عشرة آلاف سنة ماضية. وعلى نحو أكثر دقة يبدو المشهد العام لأمتنا في أهمّ علاماته، في مستوى ووضع غير مسبوق منذ مائة عام كاملة:

تفكك وانهيار عام في مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية… تفكك في نظم الدول/الكيانات وتفكك في النظم الاجتماعية التقليدية منها وغير التقليدية… انهيار في منظومات القيم الاخلاقية…

ضياع وفوضى عارمة.

من قلب هذه الفوضى، من لجّة هذا السواد، ولكن من لزوميات استراتيجية… استقبلنا هذا العام المولود الجديد في ديارنا، ديار سايكس ـ بيكو: «الدولة الاسلامية»، فازداد عددنا في مسار تكاثري متواصل…

بالطبع، نتابع جميعنا الأحداث التي تجري في أمتنا ونعرف كيف بدأت في الشام وقبلها في العراق وبعدها في لبنان… وكيف تطوّرت وآلت إلى ما هي عليه راهناً… وما يحزننا فعلاً هو ذلك المشهد الذي نرى فيه مجتمعنا على هذا الوجه القبيح البشع من الضياع والانقسام الحادّ… ما يدلّ على انكشافه تماماً، أنه في عراء كامل يتعرّض لمختلف الأخطار والأوبئة والسرطانات الأخلاقية، فضلاً عن وقوعه تحت سيطرة مرجعيات واستراتيجيات خارجية إقليمية ودولية.

مقتلنا الراهن، أنّ مجتمعنا يشكل الآن البيئة الحاضنة… لكلّ خطط الاستراتيجيات الخارجية والمؤامرات التي تُحاك ضدّنا. مقتلنا أننا قدمنا بلادنا من أقصاها الى أقصاها كوجبة سائغة لمختلف المشاريع المتربّصة بها.

إننا في العراء، مرة قال نابليون بونابرت لإحدى سيدات قصره… سقطت أحلامي عند أسوار عكا.

سورية الآن يا أهلي دون أسوار تحميها.

المجتمع السوري يا أهلنا في العراء يحيط به ويتربّص: الأميركي، الفرنسي، الانكليزي… التركي، السعودي، القطري… وغيرهم… عفواً أيها السادة، لقد نسينا «الاسرائيلي»… ذلك لأنّ النسيان المنهجي لـ«الاسرائيلي» هو الجزء الشديد الخصوصية في هذه اللعبة الجيوسياسية المعقدة.

منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي تأسّست منظمة «القاعدة»، وبدأت أولى عملياتها الكبرى في أفغانستان… منذ تلك اللحظة بدا أنّ استراتيجية «مركزة الإرهاب» تتجلّى بأكثر أمثلتها وضوحاً، ومن حينها نشأ جيش عالمي للإرهاب… جيش يملك نواة ثابتة دائمة واحتياطاً واسعاً هائلاً، يتمّ تصميم حجمه ومعداته ووسائله حسب طبيعة المعركة التي يُطلب منه خوضها.

هذا الجيش، يتمركز الآن في دولتنا الجديدة «داعش»، كما الى جوارها ممتدّاً على مساحة سورية وفي مختلف مناطقها… طبعاً باستثناء المساحة التي تشغلها «اسرائيل» لم ننس «إسرائيل» – نقطة في صالحنا.

أمست استراتيجية «مركزة الإرهاب» اليوم الأداة الرئيسية لتنفيذ مخططات توصل الى أهداف جيو سياسية كبرى. وهي استراتيجية شديدة التعقيد، تملي علينا الكثير من الأسئلة الذاتية المرتبطة بأدوات هذه الاستراتيجية ومناخها وعنوانها الإسلامي، وهي أسئلة جوهرية ورئيسية.

إنّ سورية الآن، في مواجهة أكبر جيش للإرهاب نشأ في العالم المعاصر… في مواجهة جيش جنوده ومرتزقته أتوا من كلّ حدب وصوب… ففضلاً عن السوريين منهم، يمكن أن نبدأ بتعداد جنسياتهم من السعودي إلى الشيشاني ذي الرقم: تسعون.. نعم تسعون!َ! سورية في مواجهة جيش إرهابي، يحمل ثقافة التدمير والإلغاء، ثقافة تصحير الحضارات… والأخطر أنه يؤدّي خدمات جيو سياسية لدول كبرى.. قلنا دولة كبرى!! و«إسرائيل»، لم ننسها مرة أخرى، نقطة في صالحنا.

المواجهة الدائرة في سورية الآن مركبة ومعقدة بتداخلاتها المحلية والإقليمية والدولية، بعناوينها وحقولها، ما يجعل مصير مجتمعنا في خطر كبير. ليس مصيره السياسي، بل وجوده التاريخي وثقافته وحضارته تدمير وتهجير ولجوء وقتل…

أما قلنا في البداية إننا في حضرة الخراب الكبير…

مع ذلك، ورغم هذا الخراب، لا تبدو سورية دون مقاومة أبداً. فمجتمعها وإنْ كان في العراء يقاوم.. يقاوم… بمخزونه الحضاري وثقافته، كما يقاوم بجيوشه في العراق ولبنان والشام، يقاوم بقواه الوطنية والقومية المتطوّعة الى جانب الجيش ويحقق الانتصارات يوماً بعد يوم.

نحن، من جهتنا كحزب سوري قومي اجتماعي نقاوم إلى جانب أهلنا، ونفخر وتملأ نفوسنا العزّة عندما نرى رفقاء لنا في مواقع القتال من غزة الى دمشق الى حمص الى حلب الى الجزيرة وكسب الى العراق… نفخر إذ نرى زوبعتنا تتقدّم في ميادين القتال ضدّ الرايات السوداء… رايات الموت… رايات الحقد… رايات التوحّش.

من هنا، ولهذا كله، ونظراً إلى معطيات هذا الواقع السوري وأوصافه قلنا: إنّ النهضة السورية القومية الاجتماعية هي مشروع مستقبل وليست ذكرى منقضية.

هي مشروع مستقبل لأنّ سعاده أسّسها انطلاقاً من حقل الأسئلة المفتوحة الحية لا اليقينيات العفنة الميتة التي ثبتت مسؤوليتها عما وصلنا إليه الآن.

هي مشروع مستقبل بوصولها إلى تحديد الشخصية القومية لأمتنا، وتحديد مجتمعنا التاريخي بدقة ووضوح وسط فوضى عارمة.

هي مشروع مستقبل لإعلائها مصلحة سورية فوق كلّ مصلحة.

هي مشروع مستقبل لفصلها الدين عن الدولة منذ أول يوم قامت فيه…

هي مشروع مستقبل لتقريرها بأنّ العقل هو الشرع الاعلى للإنسان…

هي أكمل مشروع حداثة في تاريخنا الراهن…

هي أكمل مشروع قادر على إنتاج مجتمع غير قابل للتفكك المذهبي الطوائفي الاتني…

هي مشروع مستقبل لأنها قادرة على الزحف نحو الأمام للخروج من فصل الجحيم وتأسيس فصل القيامة!

فصل القيامة!!

بلى، تماماً يا أهلي… يبدأ فصل القيامة:

عندما يقف السوري في وجه التركي شاهراً التاريخ لا خائفاً لاجئاً ذليلاً: قضيتم في بلادنا أربعة قرون طويلة، جلستم على صدورنا… خرجتم… ولم تتركوا إلا قبر جدكم سليمان شاه… قبر وحسب! فاحملوا قبركم يا بني عثمان… احملوا جثتكم العفنة وأرحلوا عن أرضنا الى الأبد… انصرفوا…

فصل القيامة السوري يبدأ عندما يقف السوري في وجه السعودي والقطري وسلالات البدو جميعهم: أيها البدو… لم يُكتب القرآن بماء النفط الأسود، ولا وضعت كتب ابن سينا وابن حزم والمتنبي وو… بماء الحقد الأسود، بل بماء الحبر المقدس من مكتبات بغداد ودمشق… فأحملوا حبركم الكالح… احملوا نفطكم… احملوا دنانيركم القذرة وارحلوا… ارحلوا الى الأبد…

فصل القيامة السوري… يبدأ عندما يقف السوري في وجه الأميركي والفرنسي والانكليزي ومعهم أقوام وأقوام: من الأبجدية… الى الشرائع… الى الآداب… الى تاريخنا الذي يزيّن متاحفكم… منذ أكثر من ألف عام وأنتم تتردّدون على بلادنا في غزوات متلاحقة… ظالمة؟ مدمّرة… قاتلة… فأحملوا ديمقراطيتكم الزائفة… ديمقراطيتكم المسجّاة على حاملات الطائرات والمعبأة في صواريخكم وقنابلكم… احملوها وانصرفوا…

فصل القيامة السوري يبدأ عندما تتجه الجيوش السورية من العراق والشام ولبنان… تتجه صوب الجنوب… صوب فلسطين، فلسطين أولاً…

فصل القيامة السوري يبدأ عندما، نتذكر كما قال سعاده لنا دائماً فلسطين وكيليكية واسكندرون وسيناء…

وعندما يعود سهل نينوى يضجّ بسكانه… سكان التاريخ لا بالشيشان والأوزبيك والسعوديين من مقطعي الرؤوس وآكلي القلوب… عندما تعود المدن المنسية في إدلب لإنتاج فلسفات اللاهوت والمدارس الروحانية… لا تكون مسرحاً للممثلين بالجثث… الممثلين بالحياة.

عندما يعي السوريون أنّ ابن رشد هو كنز من كنوز الإسلام، لا ابن تيمية… فالله لم ينتدب أحداً على الأرض ليقوم بالحشر والحساب نيابة عنه كما يقول سعاده العظيم.

عندما يحمل بطاركة سورية كراسيهم ويتجهوا شمالاً ليجلسوا جميعهم على كرسي أنطاكية التاريخي بعد بولس وبطرس…

عندما يدرك السوريون أنّ بلادهم أمّ الشرائع المكتوبة من حمورابي في الشرق، الى مدرسة بيروت في الغرب… وأنّ افتاءات الحقد والموت… هي إنتاج بدوي خارج عن التاريخ والإنسانية معاً.

عندما يعاود جلجامش رحلته الدائرية دوماً من أور في العراق الى جبال الأرز في لبنان… إلى بشرّي، من دون أن يوقفه حاجز «داعش» من الموصل الى الرقة.

عندما يعود رأس أبو العلاء المقطوع الى جسده في معرّة النعمان، ورأس أبو تمام إلى جسده في جاسم في حوران ليعدّل قليلاً في شِعره: كذب المنجمون والمفتون ولو صدقوا.

فصل القيامة السوري يبدأ عندما يتمّ إنزال الحلاج عن صليبه الى الأبد ليتبختر على جسر المسيّب في بغداد وينشد من دون خوف:

عجبت منك ومني يا منية المتمني

أدنيتني منك حتى ظننت أنك أني

عندما توضع رؤوسنا المقطوعة الى جوار رأسَيْ يوحنا والحسين لتتبارك بها نساء سورية، كما تفعل نساء دمشق.

عندما تعود أجراس كنائس معلولا لتقرع مع كنيسة بيت لحم… وعندما يجيبها الآذان من الجامع الكبير في حلب مع جوامع كربلاء في العراق، مع الأقصى في فلسطين…

عندما تعود دار الحكمة في بغداد وتنطفئ دور الإفتاءات القاتلة،

عندما نحمي دماء الشهداء من شهوات الفاسدين والمفسدين والكذبة والمنافقين… لتصبح سورية وطن الأحرار والحرية.

عندما تعود غوطة دمشق ملوّنة بزهر المشمش واللوز وأشجار الجوز… تعود الى الوصف الإلهي للجنة… لا الى الأنفاق والدهاليز والوصف الشيطاني.

عندما… وعندما… وعندما

عندها… وعندها… حتماً:

تشرق شمس سورية وتقف في كبد سمائها لا تتزحزح… لا تغرب أبداً… وليبدأ الله بعدها: فصل الحساب.

نصّ الكلمة التي ألقاها عضو المجلس القومي ومدير مديرية مونتريال المستقلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي نزار سلوم في الاحتفال الذي أقامته المديرية لمناسبة العيد الـ82 لتأسيس الحزب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى