افول الدور السياسي للدولار
زياد حافظ
التطوّرات في الخليج كرّست العجز الأميركي في الإيفاء بالتزاماتها تجاه الحلفاء في المواجهة مع خصومها. الإخفاق في الخليج لا يعود فقط إلى إخفاق في القدرة العسكرية على تحمّل تبعات أيّ عمل عدواني تجاه الجمهورية الإسلامية في إيران وتجاه حلفائها في محور المقاومة، بل أيضاً على ضعف سياسي وحالة إرباك وارتباك على صعيد المعمورة. فالإخفاقات تلاحق الولايات المتحدة في مختلف الملفّات التي تديرها بدءاً من المشرق العربي، مروراً باليمن، وفنزويلا، وصفقة القرن المتعثّرة، وانتهاء في المواجهة مع كلّ من الصين وروسيا في عدد من الملفّات العالقة كالحروب التجارية وحروب العملات والمعاهدات التي خرجت عنها الولايات المتحدة. كما أنّ الوضع الداخلي في الولايات المتحدة مأزوم على الصعيد السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي والثقافي، وكأنّ عناصر العاصفة الكاملة تكتمل وقد تهبّ في أية لحظة.
أما على الصعيد الخارجي فالولايات المتحدة أصبحت معزولة فعلياً. فالتعالي على الحلفاء واحتقارهم والتهديد المتصاعد ضدّ المنافسين الخصوم في الأمس كانوا شركاء استراتيجيين! كلّ ذلك خلق بيئة مؤاتية للتفكير الجدّي حول تجنّب الولايات المتحدة وتصرّفات قادتها. ترامب ليس حالة فريدة بل يعكس مزاجاً موجوداً في الولايات المتحدة. يختلف ترامب عن أسلافه بأسلوبه الفجّ وصلافته ولكن في الجوهر لا يختلف عنهم بشيء في العدوانية وعدم الاكتراث للالتزامات الدولية. لكن ما زالت الولايات المتحدة تمتلك ورقة قوّية وهي الدولار الذي تطبعه دون أيّ سقف وشرايين المال التي تسيطر عليها في التحويلات المالية. والعقوبات التي تفرضها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ترتكز إلى الدور المفصلي في الاقتصاد العالمي والتبادلات التجارية والمالية أي إلى الدولار.
استطاعت الولايات المتحدة أن تحوّل الدولار إلى سلاح وأن تحوّل شرايين المال في التحويلات المالية إلى وسائل دمار شامل لكلّ من يعارض سياساتها ويستمرّ في التعامل بالدولار. غير أنّ الظروف التي كانت سائدة في مطلع السبعينات عندما قطع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون علاقة الدولار بالذهب وعندما اتفق مع بلاد الحرمين بعد حرب تشرين الأول 1973 بتسعير برميل النفط بالدولار جعل الطلب على الدولار يفوق الاحتياجات الاقتصادية الأميركية. فكانت طباعة الدولار لتوفير وسائل مدفوعات كما أنها سهّلت تمويل عملياتها العدوانية الخارجية. وتجنّباً لوقوع في فخ التضخم بسبب طباعة الدولار لجأت الإدارات الأميركية المختلفة إلى إصدار سندات خزينة لامتصاص السيولة الفائضة ولاستقطاب الرساميل الباحثة عن ملجأ آمن. فسندات الخزينة الأميركية كانت رمز عدم وجود أية مخاطر في الاستثمار في دين عام سيادي في أكبر دولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم.
لكن الاقتصاد الأميركي عام 2019 غير الاقتصاد الذي كان سنة 1972. فركيزة الدولار، أيّ الاقتصاد الأميركي، مرّت بتحوّلات بنيوية جعلتها أكثر انكشافاً تجاه الخارج وأقلّ متانة عبر توطين القاعدة الإنتاجية الصناعية خارج الولايات المتحدة. الاقتصاد الأميركي يسيطر عليه قطاع الخدمات بشكل عام، والخدمات المالية بشكل خاص التي لها الطابع الريعي. في المقابل، صعود اقتصادات منافسة بدءاً بالاتحاد الأوروبي ووصولاً إلى الصين وعدد من الدول الآسيوية جعل قوّامة الاقتصاد الأميركي تتراجع. هذا دفع دول مجموعة بريكس بالتفكير في إنشاء شبكة من المؤسسات المالية التي تنافس المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فالمؤسستان تحوّلتا إلى أذرعة لوزارة الخارجية الأميركية التي تربط المساعدات المالية الدولية بالانصياع إلى الإملاءات الأميركية. ما زلنا نتذكر الابتزاز الذي مارسته الخارجية الأميركية على مصر في قضية تمويل السدّ العالي وربط التمويل بالانضمام إلى حلف بغداد. ما زالت الصورة هي وفقاً لما كشفة جون بيركنز صاحب المؤلف الشهير «مذكرات قاتل اقتصادي».
المهمّ هنا أنّ دول بريكس وخاصة مجموعة الكتلة الأوراسية تعمل على الخروج من هيمنة الدولار عبر عدم اللجوء إلى المتاجرة وتسعير السلع بالدولار بل بالعملات الوطنية وعبر إطلاق مشروع الحزام الطريق الذي يربط اقتصادات آسيا من بحر الصين وصولاً إلى أوروبا. فروسيا قبلت أن تدفع الهند مشترياتها التسليحية منها بالروبل الروسي. والهند تتاجر مع الجمهورية الإسلامية في إيران عبر التبادل العيني أيّ الشاي الهندي مقابل النفط الإيراني على سبيل المثال أو الروبية الهندية مقابل الريال الإيراني. كما أنّ المصرف المركزي الروسي باع معظم أصوله المالية المسعّرة بالدولار كسندات الخزينة الأميركية حيث انخفضت من حوالي 100 مليار دولار إلى 15 مليار دولار فقط. أما الدول التي تحمل السندات المالية فتأتي الصين في المرتبة الأولى بحوالي 1،2 ترليون دولار تليها اليابان بحوالي 1.1 تريليون دولار ثم البرازيل بـ 307 مليار دولار والمملكة المتحدة بـ 300 مليار وفي المرتبة التاسعة هونغ كونغ بحوالي 206 مليار دولار. عشر دول في العالم تحمل ما يوازي 3،9 ترليون دولار من سندات الخزينة الأميركية. الجدير بالذكر أن كل من ألمانيا وفرنسا ليستا في القائمة ما يدلّ على مدى «ثقة» الدولتين بالاقتصاد الأميركي! عدد من الدول المعروفة كملاجئ مالية كسويسرا واللكسمبرغ وجزر الكايمن تحمل 668 مليار دولار من سندات الخزينة الأميركية ما يوحي بالشكوك أنّ حمل تلك السندات هو نوع من تبييض الأموال.
أما منظمة شانغهاي في منظمة تضمّ دولاً تبحث عن استراتيجيات سلمية في التجارة خلافاً لما تفعله الولايات المتحدة بحروبها التجارية ، في الأمن النقدي بعيداً عن المضاربات المالية التي غزت الأسواق المالية الآسيوية في أواخر التسعينات والتي هدّدت استقرار تلك الدول كإندونيسيا وتايلاند ، وفي الأمن والدفاع. وهذه الدول تتكوّن من كلّ من روسيا والصين، والهند، وباكستان، ودول آسيا الوسطى، والجمهورية الإسلامية كمراقب تمهيداً لجعلها عضواً كاملاً. هذه الدول تشكل ما يوازي نصف سكّان العالم وتنتج ما يوازي ثلث السلع في العالم. لم يعد الشرق بحاجة إلى الغرب للبقاء وللنمو والحصول على الرفاهية. والإعلام الغربي، والعربي التابع له، يتجاهل عمداً ذلك التطوّر لإبقاء الجمهورين الغربي والعربي في حال من الجهل حول التطوّرات الكبيرة الحاصلة في موازين القوّة.
روسيا والصين تعملان بهدوء على تكوين احتياطي من الذهب. فهي تشتري الذهب ليوم تستطيع فيه إطلاق نظام عملات تستند إلى الذهب ولا تخضع لهيمنة الدولار. كما أنّ هذه الدول تفكّر جدّيا في ترويج العملات المرقّمة cryptocurrencies والتكنولوجيات الحديثة لتخزين المعلومات والأصول والمعروفة بـ blockchain والتي تمنع دولاً كالولايات المتحدة من معرفة الأصول المالية لتجميدها أو قرصنتها أو فرض العقوبات عليها. وتعتمد هذه التكنولوجيات على الذكاء الاصطناعي حيث تتفوّق الصين على الولايات المتحدة في ذلك المضمار. كلّ ذلك يعني أنّ الكتلة الأوراسية بشكل عام تبني بشكل هادئ البنية التحتية لنظام مالي دولي بديل يتجنّب الدولار وصلافة القرارات الأميركية.
ويتلازم مع بناء تلك البنية التحتية نمو التبادل التجاري خارج إطار منطقة الدولار. فالعلاقات الاقتصادية مثلاً بين المانيا وروسيا ازدادت بشكل ملموس رغم العقوبات الأميركية وعقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا. فالاستثمارات الألمانية ضربت رقماً قياسياً خلال الربع الأول لسنة 2019 حيث تجاوزت 1،7 مليار يورو. أما حجم التجارة الخارجية بين البلدين فقد زاد بنسبة 8،4 بالمائة أو 62 مليار يورو خلال عام 2018. أضف إلى ذلك استمرار المانيا بدعم خط الأنبوب الغازي نورستريم 2 رغم احتجاجات الولايات المتحدة.
أما الحروب التجارية التي شنّها ترامب على الصين فنتيجتها ستكون الابتعاد التدريجي والمنظّم للصين عن الدولار خاصة أنها استطاعت إيجاد شركاء تجاريين يقبلون بالمتاجرة خارج الدولار وخارج نظام السويفت. هذا يعني أنّ التعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة ستفقد من فعّالياتها بسبب اعتماد الصين على أسواق بديلة عن السوق الأميركي. ويمكن التساؤل ماذا لو تخلّت الصين عن حمل سندات الخزينة الأميركية؟ الأمر ليس بالسهولة التي يمكن تصوّرها. فلا مصلحة للصين للتسبّب في انهيار الوضع المالي في الولايات المتحدة، ولا في الانهيار للدولار على الأقلّ في المرحلة الراهنة التي هي مرحلة بناء نظام مالي جديد. فعدم الاستقرار المالي الذي قد يشكّله بيع السندات المالية الأميركية لا يفيد الصين. فتمويل الخزينة الأميركية كان يساهم في ازدياد الاستيراد للسلع الصينية. فمساعدة الصين للإدارة الأميركية مالياً كانت في مصلحة الصين. في المقابل لن تستمرّ الصين في دعم الخزينة الأميركية كما فعلت عام 2008 عندما فرضت على الكونغرس الأميركي الموافقة على برنامج الإنقاذ الذي أعدّتها إدارة جورج بوش. فالكونغرس الأميركي لم يكن يريد إنقاذ المؤسسات المالية انسجاما مع معتقداته الاقتصادية بان الربح والخسارة هما على عاتق المؤسسات المالية وليسا على عاتق الخزينة. في مطلق الأحوال ليس من المؤكّد أنّ الصين ستكون خشبة خلاص في الأزمة المالية القادمة وهي قادمة وبحجم أكبر مما كانت عليه عام 2008.
كذلك الأمر بالنسبة لتركيا حيث الصراع بين أنقرة وواشنطن حول منظومة الدفاع الصاروخية أس 400 التي اشترتها تركيا وتسلّمتها من روسيا رغم احتجاجات، فالولايات المتحدة تعمل على تدمير الليرة التركية عبر مضاربات أدّت إلى انخفاض الليرة التركية تجاه الدولار بنسبة 40 بالمائة. هذا سيشكّل حافزاً للصادرات التركية التي تستفيد من انخفاض قيمة الصرف لجعل سلعها أقلّ كلفة للتصدير. واستمرار الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة قد يؤدّي إلى خروج أو طرد تركيا من الحلف الأطلسي ما يشكّل ضربة قاضية لذلك الحلف وللولايات المتحدة. وإذا أضفنا إلى ذلك الجهود الفرنسية لإنشاء قوّة عسكرية اوروبية خارج إطار الحلف الأطلسي نعي مدى عزلة الولايات المتحدة وتراجع نفوذها بشكل كبير. فالتراجع أصبح أفولاً وقد يوصلها إلى الانهيار! فالجمهورية في الولايات المتحدة نمت على قاعدة التوسع التي أفضت إلى وجود امبراطورية دون تسميتها. وانهيار الإمبراطورية قد ينفي وجود الجمهورية التي قد تنقسم إلى مجموعات من الولايات بدلاً من دولة مركزية اتحادية وذلك لأسباب قوى داخلية طردية مركزية.
لا نستبعد اليوم الذي قد تقدم عليه الدول المصدّرة للنفط والغاز والسلع الاستراتيجية الأخرى كالقمح والذرة والقهوة على سبيل المثال في تسعير كلّ منها خارج الدولار. هذا يعني أنّ الطلب على الدولار سينخفض بشكل درامي قد يؤدّي إلى فيض من الدولار لا يريده أحد. ليست مهمتنا إيجاد الحلول لمنع انهيار الدولار فما نؤكّده فقط أنّ أيّام الدولار أصبحت معدودة قد لا تتجاوز بضعة سنوات.
ماذا يعني ذلك لدول كلبنان الذي يخضع إلى ابتزاز مستمرّ من قبل الإدارات الأميركية. صحيح أنّ الوضع المالي في لبنان مأزوم غير أنّ الحلول موجودة وليست بالضرورة كما تريده بعض النخب الحاكمة والمؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي أو حتى الإدارة الأميركية. الضغط على لبنان سياسي أولاً وأخيراً وليس من باب الحرص على سلامة المالية اللبنانية. فالتلويح بالحلول على قاعدة إبعاد حزب الله من الحكومة هراء. فلا مقرّرات مؤتمر «سيدر» ولا الحلول المقدّمة من المؤسسات الدولية كفيلة بإخراج لبنان من أزمته، بل العكس. في رأينا هذه الحلول ستزيد من المديونية الخارجية بينما المديونية القائمة حالياً هي في معظمها داخلية. كما أنّ المبالغ المقترحة للإنقاذ أو دفع العجلة الاقتصادية أيّ 10-12 مليار دولار لن تقارب لا من بعيد أو من قريب الدين العام الذي قد تجاوز 75 مليار دولار ولن تنشئ البنى التحتية وتحمي البيئة كما هو مطلوب. الحلّ في مكان آخر عرضناه في مقالات سابقة. لكن ما هو مطروح من قبل الإدارة الأميركية هو إبعاد حزب الله عن الحكم وتجفيف مصادر التمويل عنه عبر عزله اقتصادياً ومالياً.
لبنان يستطيع أن يخرج من أزمته المالية القائمة ويواجه الابتزاز الأميركي. ليس هناك ما يبرّر الالتصاق بالدولار. فمعظم التجارة الخارجية هي مع الصين يليها الاتحاد الأوروبي وخاصة إيطاليا. لا نفهم مغزى ربط الليرة اللبنانية بالدولار منذ اتفاق الطائف والاستمرار به حتى الآن ولا نفهم التركيز على تثبيت الليرة اللبنانية إلاّ من حيث جلب الرساميل. لكن الرساميل الخارجية التي وصلت إلى لبنان لم توظّف في القطاعات الإنتاجية بل في العقارات والمؤسسات المالية وسندات الخزينة، أيّ بمعنى آخر ساهمت تلك الرساميل في تفاقم الواقع الاقتصادي في لبنان. فهذه الرساميل كانت جزءاً من المشكلة وليست الحلّ! الخروج من كلّ ذلك ممكن ولكن يتوجّب على النخب الحاكمة حسم أمرها والتوجّه نحو الشرق بدءاً بسورية ووصولاً إلى بحر الصين. لكن ليس هناك من توافق حتى بالحدّ الأدنى على إعادة تطبيع العلاقة مع سورية والتنسيق مع الجمهورية الإسلامية في إيران والتفاهم الاستراتيجي مع كلّ من الصين وروسيا. ما زالت النخب الحاكمة تراعي كلّ من الولايات المتحدة ودول الخليج التي تمرّ بضيق مالي قد يطول ويجعل مساعدة لبنان أمراً صعباً إذا ما كانت هناك إرادة بذلك وهذا مشكوك فيه. مصالح البعض قد تكون أقوى من مصالح البلد وعلى اللبنانيين أن يتحمّلوا قصر نظر نخبها الحاكمة التي لا تريد أن ترى الأمور إلاّ من المنظور الأميركي الخليجي.
كاتب وباحث اقتصادي وسياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي