لبنان يودّع أسطورته الشحرورة
رحلت الشحرورة صباح بهدوء وسلام، بعدما تركت كنزاً ثميناً من العطاء الفني، فهي التي عاشت بتواضع كانت جنازتها عرس الموت، إذ اختلطت الدبكة بالأغاني، البسمة بالدمعة، وبمشاركة حشد سياسيّ وفنيّ وشعبيّ.
برحيل صباح، يطوي لبنان صفحة مشرقة ويودّع رمزاً من رموزه الفنية الأصيلة. صباح رحلت أمس تاركة دعوة «تذكروني بغيابي». فأمس، ودّع لبنان الرسمي والشعبي في مأتم مهيب الأسطورة صباح التي فارقت الحياة بعد رحلة فنية طويلة مكللة بالنجاح والعطاء رفعت خلالهااسم لبنان عالياً في العالم.
وصل جثمان صباح إلى كاتدرائية مار جرجس في بيروت، على وقع أغنية «تسلم يا عسكر لبنان»، فعلا التصفيق وأطلقت الزغاريد، ولُفّ النعش بالعلم اللبناني.
وكانت قد انطلقت السيارة البيضاء المزيّنة بالورود، والتي تحمل جثمان الشحرورة صباح من مقرّ إقامتها في الحازمية إلى كاتدرائية مار جرجس في وسط بيروت، وسط نثر الزهور ورقص الدبكة وأغاني الراحلة الكبيرة.
وترأس البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي صلاة الجنّاز عن راحة نفس الراحلة، وعاونه مطران بيروت للموارنة بولس مطر، عددٌ من الوزراء والنوّاب، والسفير السوري عبد الكريم علي، السيدة منى الهراوي، العميد جمال سرحال ممثلاً قائد الجيش العماد جان قهوجي، نقيب الصحافة محمد بعلبكي، نقيب المهن التمثيلية في مصر أشرف عبد الغفور، نقيب الممثلين المحترفين في لبنان إحسان صادق، والفنانون: إلهام شاهين، لبلبة، سمير صبري، بوسي شلبي، ماجدة الرومي، راغب علامة، نجوى كرم، وليد توفيق، رولا سعد، ميريام فارس، هيفاء وهبي، مادونا، الياس الرحباني، معين شريف، نقولا الأسطا، عبد الكريم الشعار، ورد الخال، جهاد الأندري، جان قسيس، رفيق علي أحمد، آلفيرا يونس، وفاء طربيه، سميرة بارودي، ليليان نمري، وحشد من الشخصيات الفنية والاجتماعية والإعلامية.
وبعد تلاوة الإنجيل المقدس، ألقى الراعي عظة قال فيها: «نودّع اليوم المرحومة صباح بالأسى الشديد مع الفرح الذي أوصت به قبيل الرحيل. وهي التي سلمها الله خمس وزنات من موهبة الفن والغناء فثمرتها، وها هي اليوم تسلّم الله خمساً أخريات، والعدد يعني كمال العطاء. بفضل هذه الامانة الكاملة والرائعة من جهتها، نستطيع أن نقول: ماتت صباح، لكن صوتها حي على مدى الأثير. غاب وجهها، لكن ابتسامتها العريضة على كل شاشة وورقة. إنها جانيت فغالي ابنة بدادون ووادي شحرور، عمها شحرور الوادي. معروفة فنياً بشحرورة لبنان صباح، وشعبياً بالصبوحة، ونتاجاً بالأسطورة.
في الصباح الباكر من يوم الاربعاء الماضي أسلمت الروح وأطلت على عالم الله، في الموعد الذي كانت تطلّ فيه على مسرح الأرض تنشد، والجماهير تمجد الله في عطاياه. رقدت ووصيتها واحدة: ان يكون وداعها يوم فرح، ومن دون حزن وبكاء، يقيناً منها أنها ترحل إلى رحاب رحمة لامتناهية…».
وأضاف: «أجل، أدت صباح، رسالة زرع الفرح في قلوب الجماهير اللامحدودة، من خلال حوالى أربعة آلاف أغنية بكل اللهجات اللبنانية والعربية والمناطقية، وتسعين فيلماً مصرياً ولبنانياً ومن جنسيات أوروبية أخرى، وثلاثة وعشرين مسرحية استعراضية وغنائية، وعشرات المهرجانات العربية والدولية. وزرعت الفرح بابتسامتها الدائمة، وحبّها الحياة، بأناقتها وتواضعها، باحترامها الغير والكلمة الحلوة واللطيفة، بسرعة البديهة والنكتة الحاضرة. وزرعت الفرح بنوع خاص في قلوب الفقراء والمعوزين وذوي الحاجة، من قريب وبعيد، وساهمت في بناء كنائس وقاعات راعوية بتقديم حفلات مجانية، باذلة من مالها الخاص وتعبها من دون حساب فكانت ذروة فرحها أنها ماتت فقيرة، من دون أن تملك شيئاً».
وقال: «وعت صباح موهبتها بعمر سبع سنوات، عندما كانت تغني مع فتيان الضيعة وفتياتها، شغوفة بجوقة عمها شحرور الوادي الذي احتضنها وأحبها وشجعها على إنماء مواهبها».
وتابع: «ولأنها حملت راية لبنان عالياً، وجالت بِاسمه في العالم عبر الفن الغنائي اللبناني والعربي، وأعلنته إلى المستوى العالمي ، كرّمتها الجمهورية اللبنانية بعددٍ من الأوسمة وأصدرت على اسمها طابعاً بريدياً. ومنحت الجنسية المصرية والأردنية والأميركية، مع أوسمة أردنية ملكية، ومغربية وسنغالية ومصرية وأرجنتينية، وكرّمها رؤساء جمهوريات ودول: من مصر إلى فرنسا وأميركا وليبيا والعراق وتونس والجزائر وسورية. وعلى اسمها سُمّي شارع في مدينة ديترويت من ولاية ميشيغن الاميركية وساحة في تونس. ومنحت من الرئيس الاميركي السابق لقب سفيرة السلام في العالم».
وختم الراعي: «صباح المتألقة بالمجد رفيعة أيضا في تواضعها. في مجتمع يتآكله، ويا للأسف، الازدواجية والكذب والحق، ظهرت صباح شفافة واضحة أمام الله والناس. لا لغز في حياتها ولا ازدواجية، لا خبث يشوه حياتها ولا تستر…».
احبت صباح جميع الناس، وسالمت الجميع، وسامحت كل اساءة، مرددة مع مبادرة السماح «والله كبير». واستعدت للمثول امام عرش الله بروح التوبة والصلاة، مرددة صلاة المزمور: «ارحمني يا الله بحسب رحمتك، وبكثرة رأفتك امح مآثمي. فإليك وحدك خطئت، والشر امام عينيك صنعت». وأغمضت عينيها عن انوار هذه الدنيا، محاطة بدفء عاطفة الاهل والاصدقاء والمحبين وصلاتهم، راجية ان تنعم بالمشاهدة السعيدة في مجد السماء.
وبعد تقبل التعازي خرج الجثمان إلى خارج الكاتدرائية على وقع التصفيق والزغاريد وأغاني الراحلة التي أدّتها فرقة موسيقى الجيش.
وكانت عائلة الراحلة: ابنها صباح، شقيقها، وبنات شقيقاتها قد تقبلوا التعازي قبل الدفن من الرئيس تمام سلام وعقيلته لمى ومن الوزراء: محمد المشنوق، الياس بو صعب، آليس شبطيني، وعدد من النواب. وأرسلت الفنانة فيروز إكليلاً من الزهر كتب عليه: «شمسك ما بتغيب»، وأكاليل من عددٍ من السياسيين.