العبور التضليلي إلى الدولة

وليد زيتوني

أخذت المقابلة التي أجراها سعد الحريري الأسبوع الفائت حيّزاً واسعاً من المناقشة لناحية أهدافها وتوقيتها، من حيث شكلها ومضمونها. فتراوحت التعليقات والتحليلات من الإيجابيات المطلقة الحرص على الدولة إلى سكوته دهراً ونطقه كفراً. وعلى رغم أننا لم نذهب هذا المذهب أو ذاك، ولم نرَ فيها أكثر من استعراض ضروري في مرحلة باتت الأرض تميد تحت أقدام «المستقبل» لمصلحة سلفية مغايرة ليست منضبطة على الإيقاع السعودي.غير أن النكهة اللبنانية التي لا يجيدها الحريري كثيراً، أضافت توابل فكرية وهوليودية أظهرتها بطعم آخر غير مستساغ على رغم التدخل الواضح لمُحاوره، أكثر من مرة لإنقاذ الوضع. فحلمه بأنوار باريس لم يعطله إلا باريس1 وباريس2 وباريس3 وإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، واللهاث وراء الخصخصة، وسرقة أموال الدولة لأكثر من عشرين سنة من قبل جماعته وأعوانه وأزلامه في السلطة. والأمن والأمان لم يضربا إلا بمشاريع أسياده في واشنطن وباريس والرياض، والدولة القوية القادرة لم يمنع قيامها إلا النهج المتبع من قبله كما من قبل والده للوصول إلى سلام مع العدو الصهيوني على خطى السعودية التي طبّعت هذه العلاقات سراً وعلانية.

لم تعد لغة الحريري لغة الشارع ولغة الناس، وحتى قصّرت في أن تكون لغة الطائفة الجامعة المعتدلة. بل وضع هذه الطائفة في إحدى زوايا الموزاييك اللبناني المتنافر وجعل منها مطيّة لأهدافه المتلاقية مع أهداف خارجية. فهو يريد لبنان شركة من شركاته العابرة للحدود من تركيا إلى السعودية إلى فرنسا والأردن وغيرها، ويريد اللبنانيين عمالاً أو زبائن على شاكلة شركات الاتصال والسوليدير وغيرها. يريد أن يخصخص حتى السياسة والأمن ويبيعهما أسهماً للمستثمرين الخارجيين. ألم يبدأ بخصخصة الأمن شركات وأفواجاً؟ ألم يذهب إلى نظام التعاقد في السلك العسكري؟ هذا النظام الذي ما زلنا ندفع ثمناً باهظاً مادياً ومعنوياً في اعتماده، شهداء مجندين ممددة خدماتهم.

طبعاً لن نمر في هذه المقابلة على أسطوانة الحريري، التي أسميناها يوماً أسطوانة الزفت، التي تطالب بخروج حزب الله من سورية. وهو الذي سبق الجميع مادياً وإعلامياً ولوجستياً وحتى بشرياً إلى دعم العصابات التكفيرية، لم ننس بعد لطف الله 2 ومكاتبه التي يشرف عليها «عقاب صقر» وغيره، ولم ننس القرار 1559 وموقفه من العدوان «الإسرائيلي» على لبنان وتنسيقه مع غونداليزا رايس وفيلتمان وبندر وجماعات السلطة الفرنسية وغيرهم أيضاً. ولكننا سنطلّ اليوم على موضوع السلم والحرب والذي لطالما اتهم حزب الله بتفرّده بأخذ القرار فيه.

يعلم السيد الحريري وما فوقه من أسياد وما تحته من أتباع، أن قرار الحرب وبعيداً من الظروف السياسية، ليس الطلقة الأولى ولا الرصاصة الأولى وليس الصاروخ الأول الذي يطلق، إنما هو التحضير للحرب معنوياً ولوجستياً أيضاً. فالمشاركة في الحرب لا تعني المقاتلين فقط إنما التجهيز في العتاد والعديد والمعدات، وهو بيت القصيد الذي غنّاه الحريري وتغنّى به في مقابلته من دون أن يدري أنه عبر إلى اللادولة بإرادته وإلمامه الشامل.

سقط الحريري في امتحان الإجابات. فهو القيّم على الهبة السعودية، من دون تكليف رسمي من الدولة، لا من السلطة التنفيذية ولا من قبل مجلس النواب المفترض أن يصدر موافقة على هذه الهبة. وهو من يتعاطى مع الدول وشركات التسليح ويرسل شبابه للمعاينة واختيار الأنسب والاتفاق على الكمية والنوعية وعلى طريقة الدفع وفتح الاعتمادات وطريقة التسليم وتوقيتاته. فهو يقوم مقام الجيش وخبرائه، ويلغي الأصول المتعارف عليها في المعاملات المشابهة، ويلغي إجراءات الدولة ويتجاوز مؤسساتها، وكل هذا من أجل الدولة التي يحلم بها.

طبعاً ألغى الحريري بضغوطاته وبإيحاء من الأميركيين والسعوديين، الهبتين الإيرانية والروسية، وهبات الدول الأخرى ليتفرد هو بالهبة السعودية.

في الاختتام ماذا لو وضعنا الحريري أمام امتحان صعب وقلنا مثلاً إننا لا نريد الهبة السعودية بضغط سياسي وحتى بقراءة علمية للجدوى منها على قاعدة الصراع مع «إسرائيل»؟ ما هو موقف هذا الحريص على لبنان وعلى الدولة، فهل يستطيع القول إننا لا نريد تسليح الجيش وهو الرافض لكل العروض السابقة؟!

العبور إلى الدولة لا يبدأ من فوق، بل من القواعد القانونية والدستورية التي تحمي السيادة وتدافع عن الوطن كل الوطن، لا عن المشاريع الفردية وفتات المشاريع الخارجية. بالعربي المشبرح «بدك فت خبز».

عميد ركن متقاعد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى