«نزاز»… قوس الرباب الذي لم تكسره أنات العازف!

فاطمة إبراهيم أبو شقره

عند أول نقطةٍ من قوس القُزَح الذي رسمه الكاتب رابطاً بين السماء والأرض ركّزتُ عينيّ على تفاصيله خشية أن ينقطع، فصرتُ كمن امتطى منجنيقاً إغريقياً أبدع صانعوه بصياغته وتفنّن الرماة بالتسديد فكانت بداية رحلةٍ فرضها عليّ طلال مرتضى عبر مرويته «نزاز».

إنها حكاية ألمٍ غاب الأمل المشتهى بين دروب أحداثها.. الرواية الاجتماعية، الدرامية، التراجيدية التي تستحق الولوج في عالمها المبني على إرث الكاتب الأدبي فنرى اللغة تنساب بين أنامله وأنفاسه سخيّةً مطواعة لتنقله، حيث يشاء من مواطن السرد موظّفاً الفصحى الأدبية واللهجة الشعبية العامية لمنطقة الفرات المرصوفة بإتقان لتشكّل لوحة تُغري القارئ.

نمضي مع الحقائق، والمجاز فنغرق في الكثير من مضامين ومعانٍ ذات قيم سامية تلامس مفاصل هامة في حياة كل فرد في مجتمعنا منذ استنهض الكاتب اللغة لتعينه على إنجاز عمله إلى آخر نقطة على سطر النهاية.

ترى عذاباتٍ متعددة الأشكال تدمع لها الروح في واقعٍ معيشٍ على حواف أوجاعٍ تنقله على أصوات أزيز الرصاص إلى رحلة ألمٍ جديدة.

طلال مرتضى عينٌ جريئة ألقت الضوء على وطنٍ كبير من خلال توثيقه الدقيق لحكاية خان السنابل المنسية والتي لاحقتها لعنة الزمن بتصويرٍ الصراعات التي تنوعت بين الظاهر البسيط والنفسي المعقد مما أضفى على العمل ديناميكية درامية، وإثارة نفسية تخبو وتتأجج على مدار الأحداث، إلا أن كل هذه الأحداث والمواجع: الخراب والدمار الذي تفشّى ونزّ ببطء على كل خطوط العرض والطول دون أن يتنبّه أحد لذلك إلى أن استحال كل شيء يباباً.. الجهل.. الجوع واليتم وظلم زوجة الأب وخريطة طريق الصلاة رسمتها لسعات نربيش النرجيلة من أب لم يكن يعرف عن الدين أو منه أكثر مما تبثه الرموز الدينية بأغراضها المختلفة لم تجعل من الراوي ضعيفاً أو مستكيناً بل ظلّ صلباً إلى أن شاءت الأقدار التغيير.

في «نزاز» امتطى الكاتب أجنحة الروح وعَبَرَ كل فضاءاتها فجعل القارئ مشدوداً يغوص أكثر وأكثر في عقله وروحه وقلبه. هذا المتمرّد المنفلت من أيّ قيود لا يقبل أي أطُرٍ أو حدود.. يرفض الإيديولوجيات أيّاً كانت. للكلمة عنده مدلولٌ يوصل إلى ما هو أبعد فكان للروح البعد العميق الحقيقيّ الذي فاض بأحاسيسه وطفت على صفحات المرويّة ليظل المتابع متلهفاً للوصول إلى مبتغى ساهر الذي أرهقته غربة الروح… أن أستعير عواء ذئب جائحٍ ليصدح في صحراء الروح الفارغة ص. 8 . يبثّ في الروح الدفء ص. 39 . هذه الأصابع لن تكون إلا أصابع طبيب يداوي جراح الروح ص. 41 . ومن أجمل ما قرأته: جُلَّ ما أحتاجه في هذه العجالة أن أجدني ليس لغُبنٍ في النفس، بل لأن الروح تعاني نزوحاً ونزوعاً قاتلاً ص. 90 . وتطول رحلته مع الروح منذ سأل الله عن أمه إلى أن يحطّ رحله في المنافي البعيدة.

بين عناوين المروية ما زالت تقبع صور جميلة، ومواقف تستحق البحث وما شخصيّة ريم إلا حكاية تحمل وتحكي الكثير:

هي صورة الوطن الذي بات مكشوف الظهر.. والأنثى التي تُباع من أجل حفنة ذهبٍ ومال، لتعيش الخواء العاطفي.. هي الأرض التي زرع فيها البطل بذرته لتلد مع الأيام شجرة تترسّخ جذورها وتناديه للعودة… هي الحب ودواء الروح الذي أطفأ مرارة الأيام وفيها أيضاً أسماء لشخصيات موسيقية وأدبية..

وفيها سرد واسع المدى ووصف لحالات الجنس التي مورست وقد أبدع الكاتب بافتعال قصة حب مع اللغة في ص. 16 وكيف لا وقد اتخذتها خليلة، أنيسة، وأيما رفيقة، تساهرها… لديك من الجرأة لتلهب أوارها… إلخ، و ص. 17 : أوقعتها في غيبوبة نشوتها… لكنها وفي اللحظة الأخيرة وقبل استلاب ارتعاشتها خمشت خاصرتك بكل ما تملك من لذة… إلخ.

وفيها الجُمَل المفتوحة على مدى فكر المتلقي ليسرح مع الراوي والكاتب في نهايات قد يراها مناسبة لما يشتهي.

وما زال فيها الـ»قجدع» ربّ الحكاية يتنقل عبرها بالمزيد.

قجدع: إله ابتدعه كامل صالح اللبناني بطلاً لمرويّته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى