التلفزيون إطاراً مرجعيّاً لتضليل الوعي وتعليبه
جورج كعدي
ثمّة إجماع على أنّ التلفزيون هو أقوى وسيلة إعلاميّة. بيد أنّ هذا الجهاز ينطوي في نواحيه التكنولوجيّة على ميل إلى توليد السلبيّة، فلا أسهل من ضغط زرّ التشغيل والاستلقاء فوق أريكة وترك الصور تنهمر على الذهن والوعي. فالتلفزيون هو الوسيلة الأحدث والأقوى تأثيراً في إشاعة السلبيّة الفرديّة، إذ يمضي البشر في كلّ مكان، وإن تفاوتت النسب بين بلد وآخر تبقى الولايات المتحدة دوماً في طليعة الاستفتاءات والظواهر السلبيّة عشرات الساعات أسبوعيّاً والألوف سنويّاً أمام أجهزة التلفزيون، من دون أدنى تفكير في مبارحة غرفة النوم أو الجلوس. ولا يقتصر الأمر على «تبليد» النشاط الجسديّ فحسب، بل يتعدّاه إلى تحجيم النشاط العقليّ نتيجة البرامج المتتالية المبلّدة للعقول والتي تفوق أيّ حساب أو تقدير. كما لا يمكن قياس التأثير «التسكينيّ» بالمعنى السلبيّ الذي يتعرّض له الوعي النقديّ. علماً أن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأنّ ثمّة أمثلة متفرّقة، وإن محدودة وقليلة، عن برامج تلفزيونيّة تعمّق الوعي ولا تسطّحه وتجذب الانتباه إلى قضايا مهمّة. بيد أنّ هذه الاستثناءات لا تحجب قضيّة بحثنا هنا، أنّ الهدف الأساسيّ لبرامج التلفزيون والبرامج والأفلام في المجتمعات الاستهلاكيّة ليس إثارة الاهتمام بالحقائق الاجتماعيّة والثقافيّة والإنسانيّة والفنيّة، بل على العكس، خفض هذا الاهتمام وتحجيمه وتحويل الانتباه عنه.
أيضاً في البعد التجاريّ الاستهلاكيّ للتلفزيون، تُقطع البرامج على نحو مستمرّ لبثّ فقرات إعلانيّة، فالإعلان بات يحتلّ ركناً في وعي المشاهد، وحتّى برامج الأطفال المفترضة ذات أهداف تربويّة باتت تعتمد الصيغة السريعة والمتقطّعة، علماً أنّ الأطفال في حاجة إلى الإطالة التدريجيّة لفترة الانتباه بسبب أثرها البالغ في تطوّر ذكاء الطفل.
حتى الجانب الإخباريّ في التلفزيون تحوّل إلى سلعة، بتأثير من النمط التنافسيّ الذي أرسته المحطّات التلفزيونيّة الأميركيّة ويقلّده الجميع اليوم في مختلف البلدان والثقافات. فالامتياز الإخباريّ يتحقّق لمن يسبق الآخرين يسمّى «سكوب» في الحصول على تلك «السلعة» السريعة التلف، أي الأخبار، وبيعها للمستهلك. ويترافق هذا التسابق التنافسيّ على الخبر مع أجواء من الضغط والتوتّر، فلدى وقوع حدث أو حصول أزمة، حتى كاذبة، ينشأ جوّ هستيريّ محموم بعيد تماماً عن الحقيقة والموضوعيّة، فتُنفخ أهميّة «الحدث» أو «الموضوع» ثم تكون الخطوة التالية إفراغه من أيّ أهمّية، فتضعف بالتالي لدى المشاهد القدرة على التمييز في درجة الأهمّية، إذ تتلاحق «الفلاشات» حول تحطّم طائرة أو تفجير إرهابيّ أو فضيحة اختلاس محليّة أو إضراب ما أو كارثة بيئيّة أو مناخيّة… يتحوّل عقل المشاهد إلى «غربال» تصبّ فيه يومياً عشرات التصريحات والصور، وبدلاً من أن يساعد الإعلام في تركيز الوعي والإدراك وبلورة المعنى، يعجز المشاهد عن التعامل مع الموجات المتلاحقة التي تطرق وعيه بإلحاح، فيخفض، دفاعاً عن النفس، درجة إحساسه بفداحة الأمور والتفاعل معها وحيالها.
يُستخدم التلفزيون في عصرنا المسعور للتشويش على المعنى لا لجلائه، رغم اعتماده السرعة وزعمه تعزيز الفهم والاستنارة. باستخدامه الراهن يروّج التلفزيون، ومعه سائر تكنولوجيا الاتصال، لتوجّهات بلا تاريخ مضادّة للمعرفة، ويخدم كذلك سائسي العقول ومعطّلي الوعي الشعبيّ أو الجماعي، وهم كثر ومتعدّدو الطرف والجهة. فلا وجود لتنوّع الآراء في ما يتعلّق بالأخبار الخارجيّة والداخليّة، أو بالنسبة إلى شؤون المجتمع وقضاياه، وهذا ناتج من التطابق الكامن للمصالح، الماديّة والإيديولوجيّة، لأصحاب المحطات الخاصة ومرجعيّاتهم السياسيّة، أو الفئويّة، ومن الطابع الاحتكاريّ لصناعة الإعلام عامة، مثل أيّ مجال تجاريّ آخر يسعى إلى الربح.
تنطوي ثورة الاتصالات الحديثة في داخلها على بذور الإخفاق عينه الذي رافق تاريخيّاً سائر الابتكارات التي شهدها حقل وسائل الاتصال، فبدلاً من خلق مستقبل جديد، تخضع التكنولوجيا الحديثة، والتلفزيون في وسطها، البشر لطقوس من السيطرة والتعليب والتنميط والتوجيه وقولبة الوعي الجماعي للسيطرة عليه والتحكّم فيه سياسة وأيديولوجيا واقتصاداً.