طرد بولتون لن يغطي على خيبات السياسة الأميركية

سرعة إقالة، أو استقالة، جون بولتون من منصبه كمستشار الرئيس للأمن القومي كانت مفاجئة في بعدها الزمني ليس إلا، إذ استبقها إعلان البيت الأبيض بشكل رسمي عن مؤتمر صحافي يعقد هناك، صباح يوم 10 أيلول/ سبتمبر، بحضور الثلاثي وزيري الخارجية والخزانة ومستشار الأمن القومي. انعقد المؤتمر القصير بغيابه بعد قرار إقالته ببضع ساعات.

التوقف لسبر أغوار ما جرى ليس بالأمر العسير نظراً لطبيعة التكتلات والاصطفافات والخلافات الحادّة التي جسّدها بولتون داخل المشهد السياسي بخيار القوة العسكرية الأميركية لغزو العالم والإطاحة بالنظم والدول المناوئة لسياسات بلاده.

كما أنه ما برح يمثل الشرائح والمصالح الأميركية الأشدّ عدوانية الساعية لإزاحة المنافسين الدوليين عبر الاستثمار الهائل بالترسانة التسليحية، وقدرتها على تبنّي الدولة أضخم ميزانية عسكرية في تاريخها.

بيد أنّ الحلول الأحادية التي تبناها واعتمدها بولتون والقوى الداعمة له في المؤسّستين السياسية والاستخباراتية لم تؤت أكلها كما كان مراداً لها، بل ارتدت بنتائج مغايرة على هيبة ومصداقية البلاد لا سيما في التحشيد الهائل ضدّ فنزويلا وكوريا الشمالية وسورية وإيران، فضلاً عن سلسلة ملفات أخرى متصلة كالحرب على اليمن وأفغانستان.

الاستراتيجية الأميركية الكونية أفصحت عن خطواتها المقبلة منذ أفول الحرب الباردة الممثلة بالتوجه شرقاً لمحاصرة الصين وروسيا، مما اقتضى التعديل في بعض الأولويات والتوجهات في ظلّ تشظي عدد من دول أوروبا الشرقية، يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، وخروج منطقة الشرق الأوسط تدريجياً عن سلّم الأولويات الأميركية، بانكفاء إسرائيل عن الجنوب اللبناني عام 2000، وهزيمتها عام 2006، وتراجع أهمية المخزون النفطي لصالح الإنتاج الأميركي.

صلافة بولتون في تعامله الاستعلائي والعنصري ضدّ زعيم كوريا الشمالية، وتهديده له بأنه يتعيّن عليه حذو النموذج الليبي بتسليم واشنطن كافة ترسانته النووية والصاروخية والكيميائية، أسهم مباشرة في خلط الأوراق والأولويات الأميركية، بينما انشغل الرئيس ترامب في الانفتاح والتقارب وعقد لقاء قمة مع الزعيم الكوري في الوقت عينه.

صمود بيونغ يانغ أمام التهديدات الأميركية وتحدّيها بالمضيّ في التجارب الصاروخية، بدعم وتأييد كل من الصين وروسيا، أرسل جملة رسائل مشفرة لصناع القرار بأن الحرب النووية التي تهدّد بها واشنطن لن تكون محصورة في شبه الجزيرة الكورية وحدها، لا سيما في قواتها العسكرية المرابطة هناك والتي ستكون أول ضحايا المواجهة.

لعلّ عامل القلق الجديد داخل الأوساط الأميركية هو تطوير بيونغ يانغ قدراتها العلمية لغزو الفضاء رصدتها المؤسّسات الاستخباراتية ممثلة بإعلان كوريا الشمالية عن ضرورة الحفاظ على محطة الفضاء الدولية للأغراض السلمية، 13 أيلول/ سبتمبر الجاري، حسبما أفاد به مركز أميركي لرصد تطورات كوريا الشمالية NKNews.org.

أيقنت المؤسسة الحاكمة، الاستخباراتية والعسكرية، أنه آن الأوان لتغيير الحصان الخاسر وتحميله وحده مسؤولية الفشل المتواصل للسياسات الفجة المتبعة التي أدّت لعزوف أقرب حلفاء واشنطن عن مشاطرتها سياساتها وتوجهاتها الخارجية، لا سيما في إيران والتجارة الخارجية مع الصين، وما لبثت أشدّ القيادات السياسية المفرطة في عنصريتها أن ابتعدت تدريجياً عن مسلك وحكمة مستشار الأمن القومي، وأيّدت قرار إعفائه من مهامه على الفور.

بولتون وفشله المتكرّر في جملة ملفات متتالية جدّد سيل الانتقادات الداخلية، أبرزها عزوف دول الاتحاد الأوروبي عن التراجع بالالتزام بالاتفاق النووي مع إيران، بالدرجة الأولى، وتعاظم قلقها من انسحاب واشنطن من المعاهدة النووية مع موسكو محذرة من نشر الأولى أسلحة صاروخية جديدة على أراضيها، بل إعلان أقرب حلفائها ألمانيا بشكل خاص عن رفضها الصريح لأيّ طلب أميركي محتمل لنشر أسلحة متطوّرة.

علاوة على القلق الأوروبي الداخلي المشروع من سباق تسلح جديد على حساب دوله قاطبة، فقد أدرك قادته مبكراً الدور المحوري لجون بولتون لانسحاب بلاده من الاتفاق النووي من جانب واحد مما أسفر عن .. تحشيد جهود أصدقاء وأعداء واشنطن لمناهضة محاولات الأخيرة لتفكيك وتدمير اتفاقية التزمت بها الأطراف الموقعة عليها، لا سيما إيران ، وفق توصيف ضابط الاستخبارات البريطاني الأسبق شارلز شوبريدج.

وأبلغ الأوروبيون حلفاءهم الأميركيين رسائل صريحة متكرّرة، وفق معلومات شوبريدج، بأن .. مغامرات بولتون عرّت وعززت عوامل الضعف الأميركية وأسهمت في عزلتها الدولية وضاعفت من منسوب الريبة والشكّ لاستدراجهم عنوة للمشاركة في حرب بقيادة واشنطن لن تعود عليهم إلا بكوارث جديدة . بل لن تجد واشنطن من يؤيدها .. سوى إسرائيل وربما بريطانيا التي تواجه عزلة مرئية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي .

تضافر تلك العوامل والضغوط إنْ دلّ على مغزى معيّن قد حفز المؤسسة الأميركية بكامل أجنحتها والمصالح الاقتصادية الكبرى التي تمثلها على تعديل البوصلة، وإظهار تأييدها لسياسات الرئيس ترامب المتسقة مع وعوده الانتخابية بعض الشيء، وإنقاذ الحزب الجمهوري من حالة الترهّل تمهيداً لإعادة انتخابه لولاية ثانية، مما يقتضي تحقيق بعض الإنجازات الملموسة لاستثمارها انتخابياً.

باستطاعة المراقب الحصيف للمشهد السياسي الداخلي الأميركي رصد حالة الإحباط المنتشرة بين النخب السياسية والاستخباراتية على السواء من عدم تحقق نبوءاتها السابقة بأنّ السياسات المتشدّدة والإغداق السخي غير المسبوق على الترسانة العسكرية ستضاعف الاستقرار الأمني المنشود للولايات المتحدة بل أدّت لنتائج مخيفة وأسهمت في زيادة عزلتها ورفع شأن منافسيها الدوليين، لا سيما الصين وروسيا وإيران أيضاً.

إقصاء بولتون حظيَ بإجماع التيارين الرئيسيّين في المؤسسة، ممثلاً بالحزبين الجمهوري والديمقراطي مما وفّر حيّز مناورة مرحلية أوسع للرئيس ترامب في توجهاته لا سيما في ما يخصّ بالاستدارة مرة أخرى نحو إيران وقرب إفراجه عن جزء كبير من ثرواتها المحتجزة والمجمّدة في المصارف الغربية والأميركية، تمهيداً للقاء يجمعه بالرئيس الإيراني على هامش أعمال الدورة السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة.

تبادل ترامب وبولتون مفردات قاسية بعد إعفائه أعاد للواجهة بعض الشكوك الأولى بأنّ ذاك الثنائي استخدم بعناية فائقة على المسرح الدولي للعبة مزدوجة الرجل القاسي والآخر المتعاطف علها تخدم الاستراتيجية الكونية بأقلّ الخسائر الممكنة. خروج بولتون بالشكل المهين عزز المقولة بأنه استنفذ غرضه عند المؤسسة كشماعة تهديد لمناوئي الهيمنة الأميركية، وبات الرئيس ترامب متحرّراً من سياسة قيود العقائدية الجامدة الدوغماتية لانتهاج سياسة عالمية ظاهرها أكثر انفتاحاً لترميم هيبة ومكانة واشنطن.

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى