السينما اللبنانية… بين السجّادة الحمراء والغايات التجارية عبّودي أبو جودي: ثمّة مساعٍ لإتاحة الفرصة أمام الإنتاجات بتجسيد رؤية اجتماعية كما يريدها الغرب… ولا خوف على مستقبلها
إعداد: رنا محمد صادق
تعتمد صناعة الأفلام السينمائية على مقوّمات أساسية لا بدّ من توافرها في أي عمل سينمائي، حيث تصبّ هذه المقوّمات ضمن الفعالية والجهوزيّة من أجل إنتاجات تواكب العصر من حيث التقنيات المستخدمة أو في ما يخصّ إنتاج الأفكار القائمة على الإيديولوجية السائدة في مجتمع ما.
يتجّه العالم نحو تحويل جديد في السينما العالمية في عملية تطوير البيئة العملية والفنية للفيلم، بحيث باتت الأفلام الثلاثية الأبعاد تستحوذ اهتمام الجمهور، بغض النظر عن محتواها التعليمي والتثقيفي، وتبرز حاجة الجمهور إلى التجديد الدائم والسريع في الطرح، والتقديم.
في سياق آخر، صناعة الأفلام السينمائية تنبثق من الواقع وتعود إليه، رغم المحاولات في شدّها نحو اتجاه عام غربي فإن حقيقة مجتمع ما لا يمكن إخفاءها طويلاً، بحيث أن هذه الاتجاهات في معظم الأحيان مخالفة لمنظومة التفكير لدى شعب معين، لبنان مثالاً.
نسعى في هذا التحقيق إلى تسليط الضوء على ما آلت السينما اللبنانية اليوم، ومضامينها والتيارات والأجواء العامة التي تحكم هذه الصناعة من الناحية التقنية ومضمون العرض ومشاركة العديد من الأفلام اللبنانية القصيرة والطويلة في مهرجانات عالمية.
اليوم، تعيش السينما اللبنانية تغيّراً ملحوظاً لجهة الإنتاجات الفنية المعروضة، حيث باتت تثبت مكانتها في الأسواق العالمية وتزيد مشاركاتها في المهرجانات، فالكثيرون من المخرجين الشباب اليوم يثبتون عن جدارة في العمل الإخراجي، أو النصوص ويوصلون رسائل اجتماعية حول قضايا عديدة نتلمّس فيها ملامح الإنسانية. فما الذي يحكم إنتاج الفيلم السينمائي اللبناني؟ وكيف باتت السينما اللبنانية تفرض حضورها كقصة سيناريو، ممثلين وإخراج؟
«البناء» التقت صاحب «دار الفرات» وجامع أكبر عدد ملصقات لحقبات السينما اللبنانية عبّودي أبو جودي الذي سلّط الضوء على مضامين إنتاج الفيلم اللبناني اليوم، والجوانب التي تحيط به.
بالعودة إلى تاريخ السينما اللبنانية، بدأت بالتوازي مع ظهور باقي السينمات في العالم العربي والمنطقة، أي في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، شهدت ازدهاراً في الستينيات حتى مرحلة الحرب الأهلية حيث أُنتجت العديد من الأفلام اللبنانية، والأفلام المشتركة، السورية اللبنانية، والمصرية اللبنانية…
في هذه المرحلة الستينيات كان الروّاد والعاملون بالسينما هواةً أكثر مما هم متخصصون بصناعة الأفلام السينمائية، كأي مهنة، فقد تعرّفوا إلى السينما كهواية، دون الولوج في هذا الحقل كتخصص، بل اكتفوا به كهواية، بحسب ما يشير عبّودي أبو جودة. في أواخر الستينيات، توجّه الطلاب اللبنانيون إلى الخارج لدراسة السينما والإخراج، خصوصاً في أوروبا، كمارون بغدادي، برهان علوية، رندة الصبّاغ، رندة الشهّال وجوسلين صعب.
مع هؤلاء بدأت المرحلة الثانية من مراحل السينما تشقّ طريقها في بلورة واضحة وشاملة في إكساب هذه الصناعة بعداً علمياً أكاديمياً، يقوم على أصول صناعة الأفلام والتمييز بينها من ناحية الصورة، الأداء، الصوت، القصة والحبكة وأنواع الأفلام وغيرها من مقوّمات صناعة السينما. الأمر الذي ميّز هذه الحقبة من تاريخ السينما اللبنانية عن سواها. بعد الحرب الأهلية، انتعشت أعمال السينما اللبنانية ونفضت عنها غبار الحرب، لكن لم تبتعد هذه صناعة السينمائية بل تأثرت كغيرها من الفنون بالوضع العام لأي مجتمع تمرّ عليه حرب. تميّزت هذه الفترة بالأفلام البوليسية، التجارية أو الأفلام ذات الطابع الخاص.
مع بداية التسعينيات، ظهرت ميول جديدة في إنتاج الفليم وتقديم السيناريو والصورة تغيّرت معها الغاية من الأفلام، حيث سيطرت التجارة على قطاع الأفلام.
موجات متقلّبة…
تقلّبت السينما اللبنانية صعوداً وهبوطاً بحسب الظروف التي عايشها لبنان من الحرب اللبنانية، إلى تكاليف المعدّات التقنية العالية، إلى عدم وجود أرشيف تاريخي ما يحول دون صناعة أفلام من حقبة زمنية تاريخية معينة، وعدم توفّر الأماكن الخاصة للتصوير وغيرها من الظروف التي أثرت بطريقة واضحة على الفيلم اللبناني.
كما اتخذت مجالها وثقافتها من الثقافة التي كانت مطروحة خارجاً في تلك الحقبة، ففي حقبة الخمسينيّات والستينيّات ظهرت الأفلام الاستعراضيّة والغنائيّة، ثم الأفلام الشعبية، ومرّت بموجة الأفلام البوليسية اللبنانية كـ»لعبة الخطّ»، «الجاكوار السوداء»، بحسب أبو جودة. الحرب الأهلية كانت فاصلاً للسينما اللبنانية، أمّا اليوم فتعيش السينما في ظلّ موجة صناعة الأفلام التجارية والكوميدية والإثارة.
تقنيّات عالية وسيناريو ضعيف
تظهر على الساحة العربية والعالمية الأفلام اللبنانية السينمائية الطويلة والقصيرة، ويعود سبب ذلك بحسب عبّودي أبو جودة إلى تراكم الصناعة الفنّية في هذا الحقل، وتراكم الخبرات، حيث لم يعد يعتمد المخرج على نتاجه الخاص بل بات يتوسّع لكي يصل إلى أكبر شريحة ممكنة، كما باتت طروحات الأفكار تتجدّد مع تجدّد العصر، ويمكن طرح أفكار مكرّرة ومعالجتها بقالب جديد مواكب لجيل اليوم.
ويقول: في لبنان باتت لدينا تقنيات على مستوى عالٍ، تحسّن المستوى من ناحية الإخراج والأداء، لكن ما زال هناك ضعف بين القصة والسيناريو يعود سبب ذلك إلى فروق التواصل بين اللغة العربية الفصحى الموجودة في السيناريو والأداء باللهجة اللبنانية، التي يمكن في بعض الأحيان أن لا تصل صحيحة، أو أن تغيّر المعنى الأصلي للسيناريو المكتوب. وهذه الفجوة يمكن أن تؤثّر على عملية التقديم، وتضعف الرسالة. السيناريو اليوم ضعيف، لأن الطلاب الذين درسوا في الخارج وجاؤوا إلى لبنان للعمل في مجال صناعة الأفلام السينمائية تختلف طبيعة تفكيرهم عن الواقع اللبناني اليوم، ولديهم للأسف نقص في الثقافة العامة، ما يُظهر نواقص بجوانب السيناريو أو القصة، وتكون بعض جوانب الفيلم مفتوحة غير مغلقة. إضافةً إلى ذلك، ففي بعض الأحيان في الفيلم اللبناني يمكن طرح شخصية غير مهمة، أو موقعها غير سليم ولا يفيد مجرى السياق.
ويضيف: الصورة السينمائية اليوم تعبّر عن نفسها، وباتت أوضح من قبل من الناحية التصويرية والفنّية والتقنية، اللقطات باتت مدروسة والاتجاهات الفنية واضحة. ولا يمكن إخفاء أن للسينما اللبنانية أسواق عدّة، فهي مطلوبة في كلّ ما هو جديد.
توجّه نحو الغرب
تتجّه فئة من العاملين في القطاع السينمائيّ نحو الحصول على الجوائز العالميّة من خلال المشاركة بالمهرجانات السينمائية العالمية التي تقام على مدار السنة.
وبحسب عبّودي أبو جودي، فإن معظم هذه الأعمال تقوم على الطرح أو القضية من فحوى المجتمع التي تناهض بالإنسانيّة والحرية والكرامة لكنها غير موجّهة إلى اللبنانيين، أو إلى العرب بل هي تحمل رسائل فيها موجّهة إلى الغربي، أو بمعنى أوضح، أنها تجسّد في الشرق ما يريد الغربي أن يعرفه عن لبنان، وهو شيء لا يشبه الواقع بتاتاً.
ويتابع أبو جودي: هذه الأفلام التي تشارك بمهرجانات سينمائية أو تصل إلى العالمية في معظم الأحيان تحمل «خدعة» مصمّمة لإقناع الغرب. بلورة الأفكار وصورة الواقع اللبناني لكن باستخدامات لا تخدم اللبنانيين بينما الغرب.
فجوة الأعمال المطروحة
ويشير أبو جودي إلى أن عمله في مجال تأريخ السينما ومراحلها لا يقوم على النقد، بل يسعى إلى تقييم الأعمال المطروحة بعد فترة معينة من تقديمها.
ويقول: الاتجاهان اللذان تسير وسطهما صناعة الأفلام السينمائية سريعان كثيراً وخاطئان نوعاً ما، بحيث يسعى الأول إلى أهداف تجارية استهلاكية والتي تموت فكرتها سريعاً مع موت بطلها مثلاً، والمشروع الثاني الذي يعمد على تصوير الواقع اللبناني كما يريده الغرب.
أهم ما تعاني منه السينما اللبنانية حالياً هو السرعة في التحضير، والتقديم بغض النظر عن الهدف الأساسي من صناعة الفيلم، متجاهلين أن السينما فنّ من الفنون يقوم بالدرجة الأولى على تغيير وتسيير الرأي العام نحو قضايا إنسانية، اجتماعية وتوثيقية وغيرها.
ما بعد مرحلة الفيلم الاستهلاكي؟!
من المهم في تحقيق أي هدف في الحياة الفنّية التي تسعى إلى تطوير العقل البشري والسلوك الإنساني وخصوصاً التي تعمل في مجال الفعل وردّ الفعل المباشر الاستمرارية في الهدف، والجدّية في الطرح، لأن اليوم الفيلم يصل إلى جميع شرائح المجتمع وعليه، مراعاة اختلاف المجتمع اللبناني في ظلّ السرعة والإعلام الالكتروني، كما أن فئة من الشباب العاملين في السينما اللبنانية مدركين أن في لبنان معتقدات ومبادئ خاصة لا يمكن تجاهلها، واستغلال أفلام السينما في تحفيز الرأي العام على كلّ نشاط يصبّ في مصلحة الوطن، ويحمي خصوصياته بعيداً عن أي ضغوط، ولا خوف على مستقبل السينما.
بالتالي، الإنتاجات السينمائية اليوم في لبنان تتجه نحو خطّ واضح يحتاج إلى إمكانيات كاملة، في الطرح بعيد عن التكرار والمألوف، لنشهد فنّاً لبنانياً قائماً بذاته ينضمّ إلى الفنون الأخرى التي تنمّي المجتمعات. ومن هنا، فإن تقدّم أي مجتمع ومقياس حضارته يقاس على ماهيّة فنونه وثقافته، وبالحديث عن الحضارة تشهد بيروت في السنوات الأخيرة ظاهرة الغرافيكس على جدران الشوارع والطرقات، التي تعكس صورة غير اعتيادية عن لبنان جميل بريشة شبابه.
تفاصيل عن الغرافيكس في شوارع بيروت وأبعادها الفنّية والاجتماعية قريباً في «البناء».