ذاكرة الويمبي.. خالد يلبّي نداء خليل
نظام مارديني
في مثل هذا اليوم كتبت رسائلَ عشقك المتوهّج
وقصائدَ وطنك يا خالد.. وكنتَ علامتنا الفارقة.
ها هو اليوم يتلألأ مثل أشجار الميلاد، وأنت تجمع جدائل النور إليك، كما لو أنك الشمس.
قلت عبر رصاصاتك المقدسة: حين خلعتُ حرائق مدينتي ارتديتم معي لهفة الضوء، فهل كان الشهيد خالد علوان يستجيب لنداء الشاعر الشهيد خليل حاوي، في اللحظة ذاتها وهو يقرّر الردّ على احتلال بيروت؟
لم يكد يُنهي شهيد الشعراء، خليل حاوي، حياته احتجاجاً، وهو يرى الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، بعبارة: «مَن يرفع عني ذلك الذلّ».. وهي عبارة لم يردّدها مثقف آخر في الهلال السوري الخصيب، رغم الهزائم المتلاحقة، والخرائط الممزّقة، وأحوال العار التي تلاحقهم وقد باعوا وطنهم بفضة من اليهود.
لم يكد ينهي حاوي حياته احتجاجاً، حتى جاءت عملية الويمبي لترفع عنه وعن شعبنا هذا الذلّ..
لم تكن عملية «إسقاط سلامة أمن الجليل» قبل سبعة وثلاثين عاماً، تلك التي نفّذها البطلان القوميان، سمير خفاجة وفيصل الحلبي، للردّ على تصريحات رئيس وزراء العدو آنذاك مناحيم بيغن «لا صواريخ بعد اليوم على الجليل»، إلا عنواناً لبدء المقاومة الوطنية اللبنانية في وجه الاحتلال عندما كانت دباباته تدخل مدن الجنوب وتصل إلى العاصمة بيروت.
سجلت رؤية جنود العدو في شوارع بيروت وجلوسهم في مقاهيها، تحوّلاً كبيراً في وجدان المقاومين من قوميين وشيوعيين وناصريين وبعثيين، الأمر الذي لم يدم طويلاً فكانت عملية الويمبي البطولية التي نفذها الشهيد خالد علوان وقتل خلالها ضابطاً وجنديين للاحتلال باكورة العمليات التي نفّذها الحزب السوري القومي الاجتماعي، مثلما شكلت عملية بسترس للحزب الشيوعي. التي تمّ على أثرها تأسيس جبهة المقاومة اللبنانية ببيان مشترك للشهيد جورج حاوي ومحسن إبراهيم، وغاب عنها رئيس الحزب القومي الأمين الراحل انعام رعد وقيادات وطنية أخرى لأسباب أمنية حالت دون وصولهم إلى المكان بسبب حواجز الاحتلال وعملائه. وعلى الأثر أصدرت قيادة الحزب القومي من موقع توارت فيه، بياناً في 18 أيلول ونشر في وسائل الإعلام في 19 أيلول 1982، دعت فيه الى «مقاومة الاحتلال والوحدة الوطنية».
ويروي خالد الواقعة، بأسلوبه البيروتي الصافي ووعيه القومي العميق: «كنا في جولة تفتيش عن العميل وليد الجمل، نجوب شوارع بيروت لننفذ حكم الأمة بالخائن، حين فوجئنا بثلاثة من ضباط العدو وجنوده، واحد برتبة نقيب وآخر برتبة ملازم وثالث جندي عادي، قد يكون سائق السيارة. لكزت م. لكز ع.، فهمنا على بعض لكننا لا نملك سوى مسدس واحد فهرعنا الى رفيق لنا في عين المريسة أعطانا المسدس، وأحضرنا الثالث من منزل أحدنا ع.. أما رفيقنا طوني روكز الذي اختطفته قوة من جيش بشير الجميل في ما بعد، فأحضر لنا مسدساً من عيار 14-9 وأهدانا الدكتور عبد الله سعاده مسدس سميث من عيار 36 من كتاب محمود غزالي «على رصيف الويمبي» .
نحن اليوم أمام حكاية «الويمبي» التي أكدت لنا أن لا ولادة لمقاومة إلا عبر ثلاثيّة مقدسة: العقيدة والإنسان والإيمان، ولم يكن للبطولة أن تنتصر في خالد علوان، لو لم يجسّد هذه الثلاثية المقدّسة، ويكون امتداداً حياً للمقاوم الأول الزعيم أنطون سعاده، المقاوم المؤسس بفكره وعقيدته وإيمانه والواثق أن في شعبه قوة لو فعلت لغيرت مجرى التاريخ، وهي فعلت ودفعت العدو للصراخ عبر مكبّرات الصوت: لا تطلقوا علينا النار، إننا راحلون راحلون راحلون.
وقد رحلوا عن بيروت، بعد ضربهم في مواقعهم في زقاق البلاط أمام مدرسة مار يوسف، وفي عائشة بكار، وفي تلة الخياط، وفوق جسر حوض الولاية، وأمام منزل صائب سلام في المصيطبة، وداخل مقرّ منظمة التحرير على كورنيش المزرعة، وفي محلة الصنائع وداخل مقهى الويمبي في شارع الحمرا، وسواها الكثير الكثير.
كما رحلوا عن لبنان نهائياً بفعل المقاومة المنتظمة بعد ذلك لحزب الله، التي لم تكن إلا استمراراً للفعل المقاوم الذي جسّدته أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية العلمانية.
وما زالت المقاومة مستمرّة على امتداد الوطن كله، لتوحّده وتنهض به!
للشاعر الراحل عصام العبد الله:
«ما بعرفن/ ما شايفن / لفّوا وجوههم بالقهر/ خبّوا سلاحهم بالوعر/ خبّوا أساميهم/ ما في حدا بيشوفهم/ إلا إذا ماتوا/ وتعلّقوا متل التحف/ متل القمر».