العلاقات السورية التركية… هل تبصر النور مجدّداً؟
أمجد إسماعيل الآغا
لم تعد التحديات السياسية وجزئياتها المترافقة مع بدايات الحرب على سورية، تمثل عوائق لا يمكن تجاوزها، أو عدم إمكانية وضعها في أطر التقارب والتنفيذ، بل على العكس. فقد بات من الضروري البحث عن تفاهمات تمهّد الطريق لإعادة صوغ التحالفات، بما يؤسّس لخارطة طريق سياسية في سورية، تحقق للجميع مكاسب وامتيازات بالمعنى السياسي. والواضح ضمن ذلك أنّ حالة فقدان التوازن السياسي والعسكري التي أصيب بها أردوغان، قد أماطت اللثام عن مسارات قد يعبدها لجهة التواصل مع دمشق، وبوساطة روسية إيرانية. فالتصدعات الاستراتيجية التي أربكت خيارات أردوغان في سورية، وأفقدته بوصلة التوجهات السياسية والعسكرية، لم تبدأ بسيطرة الجيش السوري على مدينة خان شيخون الإستراتيجية، وإسقاط المنظومة الإرهابية فيها وعلى محيطها، بل أنّ المفصل الاساسي لتلك التصدعات بدأت عقب السيطرة على حلب.
من هنا فإنّ جملة المآزق الأردوغانية في سورية، تشكل في ماهيتها فشلاً واضحاً في السياسية الخارجية لـ تركيا، هو ما يشير إليه رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كجيدار أوغلو الذي يدعو أردوغان إلى الاعتراف بفشل سياسته الخارجية وإعادة العلاقات مع سورية والتعاون مع الرئيس بشار الأسد، وذلك بحسب أوراق التحضير لمؤتمر موسع لمناقشة الأزمة السورية في القريب المنظور.
الإصرار الروسي الايراني على التوصل لتسويات سياسية، نابع أصلاً من قوة الموقف السوري، وقدرته على تجاوز أيّ تعقيدات أو خلافات سياسية، بما لا يضرّ وجوهر الاستراتيجية السورية. هنا لا ينكر أحد، بأنّ الحرب على سورية أرهقت الجميع، وبات ضرورياً التوصل إلى بوابة تفتح الأفق السياسي أمام جملة متوازنة من الحلول السياسية.
وفي ذات السياق، بات الجميع يدرك بأنّ الحلول العسكرية لن تجلب سوى المزيد من التصدعات في بنية العلاقات الإقليمية والدولية. ولن تخدم إطلاقاً أيّ طرف فاعل ومؤثر في الشأن السوري. خاصة أنّ جلّ التوجهات الإقليمية والدولية، أدركت أنّ سورية وحلفاءها يسيرون بنسق سياسي وعسكري متوازٍ وهادئ، وهذه المعادلة ستثمر بلا ريب، منجزات استراتيجية سورية ستؤطر بموجبها كافة الخطط الأميركية والتركية في سورية. يضاف إلى ذلك جزئية لا تخلو من الأهمية الاستراتيجية، ألا وهي التوافقات الروسية الايرانية مع دمشق، بغية الحفاظ على المكتسبات السياسية والعسكرية التي حققت، وهذا بدوره ما تدركه واشنطن وأنقره جيداً.
نتيجة لذلك، تبدو مروحة التفاهمات في اتساع مضطرد، رغبة من كافة الأطراف بعدم الدخول في أيّ صدامات عسكرية جانبية، قد تؤدّي إلى غليان إقليمي ودولي، سيصيب المجالات كافة. وما يثبت ذلك هو إبقاء مقعد تركيا في استانا وتفاهمات سوتشي، رغم عدم التزام أردوغان بمهامه المنوطة به، وهذا الاحتفاظ بالطرف التركي يأتي لصالح الحلّ في ملف إدلب، كما يعتبر ذكاء سياسي من روسيا وإيران وسورية أولاً.
كمدخل أساسي لأية تفاهمات سياسية، باتت الدولة السورية تمتلك الكثير من أوراق القوة، لافتتاح بوابة الحلول. وضمن ذلك، فإنّ التفاهمات السورية الروسية الإيرانية، أعطت ثقلاً هاماً في الخطوط العريضة المرتقبة للتسويات، وفي هذه الجزئية، تحاول تركيا الولوج إلى داخل المعادلات السورية، خاصة في ظلّ تذبذب السياسية الأميركية في سورية، وتوضح توجهاتهم حيال الكرد، الأمر الذي يهدّد مباشرة طموحات أردوغان في سورية.
وعطفاً على الأعباء التي لم يعد أردوغان قادراً على حملها، لجهة شرق الفرات وملف إدلب وإرهابيه، فضلاً عن تفاهمات سوتشي وأستانا، وانسداد أفق الحلول والتفاهمات المرتبطة بالشمال الشرقي من سورية. يضاف إلى ذلك، التغيّرات المتسارعة في مدارك الرأي العام التركي، إزاء التوجهات السياسية للدولة التركية خارجياً وداخلياً. كلّ هذا يقتضي ضرورة بناء واقع سياسي جديد، يتناغم وجملة التطورات التي أسّست لها الدولة السورية وجيشها.
وبدأ الخطاب السياسي في تركيا يتخذ توجهات تأتي بمجملها في سياق ضرورات التواصل مع دمشق، وهنا يحضر قوياً كلام النائب في البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، أحمد برات تشونكار، حيث قدّم تقريراً عن أهداف ومواقف تركيا في الأزمة السورية، وأقرّ بأنّ تركيا دعمت المعارضة المسلّحة ومجموعات ما تسمّى «الجيش الحر» منذ اندلاع الأزمة من أجل، لكن هذا الدعم لم يصل إلى أية نتيجة مرجوّة منه، وفي نهاية التقرير تمّ التأكيد على أنّ أنقرة بدأت تغيّر مواقفها تجاه دمشق رويداً رويداً، وبدأت تتعاون مع إيران وروسيا بصورة جدية أكثر.
ضمن ما سبق من وقائع ومعطيات، بات مؤكداً بأنّ هناك رغبة تركية في البحث عن مسارات توصلها إلى دمشق، لكن لا تزال أنقرة تبحث عن توقيت سياسي يضمن لها القدرة على التماهي مع المواقف الثلاثية السورية الروسية الإيرانية، حيال عديد الملفات الناظمة لخوض غمار الحلّ السياسي، وبما لا يؤثر على جوهر السياسية التركية المعتمد على البقاء ضمن توازنات الكبار المؤثرين في القضايا الإقليمية والدولية.
النتائج المنطقية التي احتوتها التحوّلات العسكرية في سورية، وتغيّر خارطة المشهدين السياسي والعسكري، بات المشهد السوري ومعادلاته في إطار التأسيس لإصطفافات جديدة، فاستيعاب المسائل السياسية يحتاج إلى تعمّق في ماهية المصالح، فمن يكون اليوم عدواً، قد يغدو صديقاً إنْ تطلبت المصالح ذلك.
معطيات كثيرة تؤكد بأنّ هناك محادثات تركية ـ سورية وراء الكواليس. الصّحافي التركي محمد يوفا، الذي يعمل في صحيفة «آيدنليك» التركية قال في وقت سابق عقب اللقاء المغلق بين الرئيس السوري بشار الأسد، ومجموعة من السياسيين والصحافين، إنّ الرئيس الأسد «كشف عن لقاءين رسميين بين هاكان فيدان رئيس جهاز المخابرات التركي المقرب من الرئيس أردوغان ووفد أمني سوري رفيع المستوى، الأوّل في العاصمة الإيرانيّة طهران، والثّاني وهو الأهمّ في معبر كسب الحدودي»، وقد شدّد الرئيس الأسد على «أنّ ضبّاط الأمن الأتراك أكثر فهماً ومعرفةً بالأوضاع داخل سورية من نظرائهم السياسيين».
هذه المعطيات تماهت مع تقارير تحدثت في وقت سابق، بأنّ زعماء أتراك قد التقوا مع أردوغان وتحدثوا حول الحاجة إلى التفاوض مباشرة مع سورية، لإيجاد الحلول في ما يتعلق بـ مشكلات تركيا في سورية، من بينها يمكن الإشارة إلى بيان دوغو برينجك رئيس حزب «الوطن»، وكذلك الاقتراح المباشر لزعيم حزب «السعادة» الإسلامي كاراميلا أوغلو. ضمن هذا المشهد بات من الواضح أنّ هناك معادلات تخط مشهداً جديداً في سياق الحرب على سورية، وبلا شك، سيكون له تأثير خلال الفترة المقبلة.
في الجانب التركي، هنالك الكثير من القضايا التي تحتاج إلى تنسيق مع الدولة السورية، على رأسها وفي مقدّمتها قضية الكرد وتوجهاتهم، حيث أنّ هذه القضية تشكل في أبعادها هاجساً تركياً لا بدّ من تبديده، وستكون أرضية لبناء قنوات تواصل بين أنقرة ودمشق، في مسعى مشترك لوضع هذه القضية في حدود سياسية بعيدة عن التوجهات الأمريكية الغير مرضية للطرفين.
في هذا الإطار، وقبل يوم من القمة الثلاثية «الروسية الإيرانية التركية» التي عقدت في أنقرة، بعثت الحكومة السورية برسالتين منفصلتين إلى رئيس الأمم المتحدة ومجلس الأمن، للاحتجاج على التعاون الكردي مع أميركا في شرق الفرات، واعتبار ما يسمّى قوات سورية الديمقراطية حركةً إرهابيةً، هذا الأمر الذي أثار قلق المؤسسات السياسية والعسكرية الكردية، فقد أصدرت هذه القوى بياناً اعتبرت فيه خطوة دمشق محاولةً للتوصل إلى اتفاق مع تركيا.
في جانب آخر يشكل أهمية استثنائية في سياق التلاقي بين دمشق وأنقرة. تبرز الخلافات الأميركية التركية حيال ما سمّي المنطقة الآمنة، كهامش يمكن لتركيا استثماره والمناورة عبره، فالتعاون الأميركي مع الكرد، والتعنّت لجهة إبقائهم ضمن الأجندة الأميركية، سيشكل منطلقاً يرتكز عليه أردوغان، في السعي نحو محادثات مباشرة مع الدولة السورية، لتمهيد الطريق أمام إغلاق هذا الملف، ووأد التهديدات المشتركة الناجمة عن توجهات الكرد.
كثيرة هي الحقائق التي تقودنا إلى استنتاجات تؤكد بأنّ ضرورات التطبيع بين دمشق وأنقرة، باتت تمهّد لعودة العلاقات بين البلدين.
فالعلاقات القوية والمتنامية بين موسكو وأنقرة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ستكون من ضمن المعادلات التي يجب أن تشكل بوابة يتمّ من خلالها حلّ الخلاف الرئيس بين البلدين في سورية.
في المحصلة. صحيفة «آيدنليك» التركية ذكرت في أيار /مايو من هذا العام، أنّ الرئيس السوري بشار الأسد كان قد صرّح في اجتماع مع ممثلي وسائل الإعلام بالقول: «نحن لا نتفاوض مع تركيا عبر روسيا أو إيران فحسب، فقد تفاوض الضباط الأتراك والسوريون معاً في مناسبات عديدة». فهل نشهد قريباً بوادر سياسية تؤشر في مضامينها إلى عودة العلاقات بين دمشق وأنقرة؟ فالضوء الأخضر لعودة هذه العلاقات مرتبط بالإفصاح حقيقةً عن النوايا التركية، خاصة أنّ جلّ التطورات تفترض إعادة تموضع تركي، يقرّبها من دمشق، في ظلّ تعاظم القواسم المشتركة بين البلدين، لجهة ملفي الكرد وإدلب.