أيُّها الراحلان الى شرفات الأفئدة
رفيق أبو غوش
لم يخجل تشرين من تغييبِ قامتين كبيرتين مثل صباح وسعيد عقل، قبل أن يستسلمَ، ويلقي عصاه .ولم يخجل القدر من أن يُواري كوكبين في كبد التراب، لكأنَ الشرَّ والإثمَ استسهلا الموت، وتجرَّأ الأزلامُ على ساداتهم، وسادَ الكونَ سكونٌ مريب.ولم يخجل لبنان الَّذي يرتفعُ على أعمدة فنَّانيه ومبدعيه من أن يُودي بعظمائه الى النسيان، فينكسر عمودٌ، ثم يليه آخرُ، وقد سبقتهُ أعمدةٌ لتنتشرَ الصحراءُ، وتستقرُّ حبَّاتُ الرمل في شوارعه وفي سهرات القمر على شرفات البيوت، وعلى الضياع التي عملقها هذان الكبيران، فضارعت بصوتهم وبشعرهم أقدمَ الحواضر وأعرقها مدنيّةًّ وحضارة.
لقد نقَلتنا صباح من أوحال التنازع ومن التمترس المذهبي والتخلُّف الفكري الى جنَّات يتعمشقُ فيها النغمُ جدران الروح، وأوقدت لنا صباحات لم تستطع أيادي الجهل أن تُطفىء جذوتها وبريقها .وأعلننا سعيد عقل كواكبَ تسبحُ حذاءَ المجرَّات، ومخلوقات سديميَّة تتنفَّسُ الكبرَ وتأكلُ العلاءَ، وتحدّقُ إلى الملكوت.وفعلها قبلهم «الصافي» عندما ارتفعَ بنا الى مصاف الآلهة، وأفَّقَّ ورادَ السماء حتَّى حسبتَ هذا اللبنان قطعة حلوى من هذا الفردوس الجميل، أو صبيَّةً مخلوقةً من جمالات النساء كلّها، أو أيقونةً فُصّلت من سائر المجرَّات حتى استقامت على ما هي عليه .
لربما خدعنا هؤلاء العباقرة وظلَّوا يُطوّفونَ بنا حتَّى اعتقدنا أننا اصبحنا آلهة، وأنَ لبناننا هذا خُلقَ بمرسوم خاصّ وأوحد، وأنَّ لا شبيهَ لهُ إلاَ الجنَّات الموعودات والسهول المفتوحة عندَ مبيت الشمس. لقد نسيوا أو تناسوا أنَّنا خليطٌ ماكرٌ مجنون.وأنَ هذه الجنَّة التي أوجدوها إنَّما حطَّمنا هياكلها بأيدينا، وأكلنا لحمها بشراسة، وتركنا حقولها نهباً للريح والوجع والغربة، وأنَّ تلكَ الأعمدة تتداعى واحداً بعدَ الآخر، وأنَّ هذه العمارة باتت مكاناً للغربان وبنات العناكب، وأنَّ الكبارَ في هذا الوطن لم يبقَ لهم مكانٌ بينَ متصاغرين .
أهيَ لعنةُ السماء ؟ أو هيَ دموعُ الأخيار وأصحاب الكبرياء على هذه الأرض التي لم تعد لهم والتي دنَّسها المتمذهبونَ الجدد؟ أهي غصَّةُ الغيارى على وطن صار بحجم شائعة ومستقبل يُبنى على أيدي المفسدين أصحاب الياقات الفاخرة ودعاة المذاهب الجهنَّمية ؟
إنَّ رحيل العمالقة ربَّما يُؤذنُ بخواء الأزمنة وانقطاع حبل السرَّة ما بينَ الإبداع والمستقبل، ولعلَّهُ من تعاسة الزمان أن يفرغَ من آلهته ومن صباحاته الممشوقة على ضفاف بردوني سعيد عقل وجارة واديه، وأن يبقى الجبلُ يُنادي علَّة شموخه فلا تجيبُ الأودية إلاّ عزيفَ الصدى.
نسيت إنكلترا جميع ملوكها، ودخلَ ساسةُ التاريخ بعظمتهم وسلطانهم وبطشهم بوَّابةَ النسيان، وتحطَّمت أًصنام التاريخ كافة، لكنَّ أيَّاً منها لم يستطع أن ينالَ من عبقرية شكسبير ولا من فرادة هوغو ولا من حديقة بودلير وأزهاره.وهكذا فقد تنهارُ ممالك وتُستباحُ أوطانٌ وتتغيَّرُ خرائط، لكن العباقرة والشعراء والفنَّانين في هذا الوطن المطعون سوفَ يبقونَ يبلّلون صباحاتنا، ويلهمونَ أجيالنا، ويكتبونَ أسطورةَ العظمة، ويوقدون مشاعلَ الأحلام المؤجَّلة، والصفحات الناصعة لهذا الوطن العصيَّ على حماقة سياسييّه، والشامخ على وضاعة ما يرتكبون .وسيبقى هؤلاء فرسانَ الزمن الجميل الذي صنعتهُ «رندلى» والأعمدة» وشعشعات الشعر المنبثقة من هامة باسقة، وياقة حمراء هي أشرفُ من عفن سياساتهم .وستبقى «الضيعة» وصوت ُ الشحرورة، وحزمة الأغاني نغماً عُلويَّاً يدلُّ الحالمَ الى حنجرة المدينة .
أظنُّ السماء قد نزلَت الى الأرض، وأخالها تعتذرُ منكما أيُّها المسافران الى شرفات الأفئدة.