أمن المصريّين الاستراتيجيّ في خطر؟

د. وفيق إبراهيم

استطاعت معاهدة كمب ديفيد التي وقّعها الرئيس المصري السابق أنور السادات مع الكيان الإسرائيلي في 1979 إلغاء الدور الإقليمي الكبير لمصر وحولته بلداً ثانوياً في الشرق الاوسط مستتبعاً لدول الخليج النفطية والأميركيين و»إسرائيل».

هذا ليس اتهاماً بقدر ما هو وصفٌ دقيق للوضع السياسي لمصر من كمب ديفيد وحتى الآن.

إلا أن معاهدة جديدة تلوح في الأفق، قد يكون له أثر وتداعيات أعمق من كمب ديفيد حتى على مستوى تهجير المصريين من بلدهم.

وهذه الخطة ليست جديدة لأنها بدأت قبل ثماني سنوات بمشروع بناء سد النهضة على نهر النيل في جانبه الإثيوبي ما أحدث في حينه اضطراباً في العلاقات المصرية الإثيوبية استدعت سلسلة لقاءات بين البلدان التي يعبرها نهر النيل العظيم. وتعهّدت فيها إثيوبيا باحترام المعاهدات والأعراف والقانون الدولي الذي ينظم اقتسام المياه بين البلدان ذات الأنهار الدولية العابرة للحدود.

ومنها نهر النيل الذي يعبر ست دول أفريقية قبل وصوله الى مصر، يكفي أن أبا التاريخ هيرودوت اليوناني الإغريقي قال إن مصر هبة النيل.

يمكن هنا الاضافة أنها من دونه لا قدرة لها على الاستمرار ككيان سياسي لأن المصريين ينفقون 90 في المئة من الكميّات التي تصلهم وهي 55,5 مليار متر مكعب على مياه الشرب والزراعة أي أن مئة مليون نسمة من المصريين يرتبطون بهذا النهر بشكل حيوي استراتيجي.

وبما أن مصر هي البلد الأكبر بين دول النيل وذات القدرة السياسية الأكبر في حوضه، فإنها ظلت قادرة على استهلاك معظم حاجاتها من النيل بمعدل 90 بالمئة منه و10 في المئة من مياه الأمطار.

ما كان ينظم تحاصص مياه النيل هي معاهدة رعتها الدولة المستعمرة في حينه بين بلدان الحوض، اشارت صراحة الى ضرورة امتناع اي بلد من بلدان النهر بأي بناء عليه تسيء الى حصة مصر. هذا الى جانب الأعراف والعادات المعتمدة تاريخياً وهو ما يشير اليه القانون الدولي ايضاً، واخيراً يرى القانون الدولي ان غياب المعاهدات والأعراف تفرض اللجوء الى معايير نسبة عدد المستفيدين ومرور النهر في كل بلد ومراعاة بلدان المنشأ والمصب.

وهذه عناصر تدعم بشكل واضح مصر التي يزيد سكانها عن سكان كل بلدان عبور النيل، كما أن مجراه فيها هو الأكبر لأنه في البحر المتوسط بعد اختراقه الحدود السودانية.

لكن كل هذه المعطيات القانونية لم تمنع إثيوبيا من بناء سد النهضة أكبر سد في افريقيا لحجز كميات ضخمة من مياه النيل أكبر من الحصة المصرية، وبشكل لا يراعي ضرورة التخزين في مدد طويلة وليس بسرعة لأنها تنعكس سلباً على مياه الشرب والزراعة في مصر.

سياسياً دعمت «إسرائيل» إثيوبيا في سدّ النهضة هندسياً وتمويلياً بالإضافة الى تجاهل أميركي لم يكلف نفسه عناء تدبر أي تسوية بين مصر والحبشة، أما الأكثر طرافة فجاء في بيان أميركي صدر بعد لقاء ثلاثي بين مصر وإثيوبيا والسودان في الخرطوم لم يتوصل الى اي اتفاق وسط انسداد كامل في المواقف، لكن البيان الأميركي رأى في هذا اللقاء عنصراً إيجابياً يعكس حسن العلاقات بين أطرافه.

أما الأكثر طرافة فبيان للرئيس المصري السيسي اعلن فيه عدم التوصل لأي اتفاق مع إثيوبيا واعداً المصريين بأنه لن يسمح لسد النهضة بتعطيش مصر.

لذلك فهناك موقفان مشبوهان: الاول هو الموقف الأميركي المحتجب في هذه الأزمة، تواطؤ مكشوف. وموقف الدولة المصرية التي سمحت لإثيوبيا بالتعاون مع «إسرائيل» ببناء سد النهضة منذ ثماني سنوات وهي الملمّة بأضراره الأكيدة على الاستقرار الاجتماعي المصري هذه المرة، وليس لتخفيض زيادة مائية مصرية تأخذها ارض الكنانة من مياه النهر الخالد. وهي عملياً بحاجة لكل قطرة ماء لتلبية الزيادة المرتفعة للسكان.

أما المعطيات التي تثير المزيد من القلق فتبدأ بعرض إثيوبي لمصر بتزويدها عشرين مليار متر مكعب فقط أي بخفض 35 ملياراً، مما تستهلكه حالياً ورفضته مصر بحدّة.

كما أن السودان بدوره عرض على مصر حصة تصل إلى 35 ملياراً بخفض نحو عشرين مليار عن استهلاكه الحالي.

إلا أن تطويق مصر مائياً لا يقتصر على إثيوبيا والسودان بتشجيع أميركي، فهناك «إسرائيل» التي طالبت بقناة من مياه النيل تصل الى فلسطين المحتلة عبر سيناء، وذلك مقابل دعمها حصة مصر في إثيوبيا.

فماذا يجري؟

سدّ النهضة هو الجزء الثاني من كمب ديفيد وربما يشكل خطراً اكبر منه لأن إنقاص حصة مصر من نيلها يؤدي الى تراجع كبير في قطاعها الزراعي وتهجير الفلاحين فيها الى اقصى زوايا العالم، باعتبار ان الاقتصاد المصري مضطرب ومتراجع وعاجز عن تلبية أي تدهور اقتصادي، خصوصاً في قطاع الزراعة الذي لا يزال يشكل عمود الاقتصاد المصري، لذلك فإن سد النهضة هو في جانب من جوانبه مشروعاً لإنماء إثيوبيا لكنه في جوانبه الاخرى يؤدي الى إفقار مصر وتهجيرها ووضعها في خدمة الأميركيين والخليج و»إسرائيل» في آن معاً.

فهل ينزح المصريون؟ هناك اعتقاد بأن النظام المصري هو المهدّد بالنزوح لعجزه عن الدفاع عن بلده ومكانتها الإقليمية ومياه نيلها واستمراره في التبعية لـ»إسرائيل» والأميركيين، ما يبقي مصر في دائرة الدول المنصاعة والفقيرة ولا حلّ إلا بعودتها من كمب ديفيد و»إسرائيل» الى بلدها العربي للعودة الى قيادة الإقليم نحو مستقبل تتعاون فيه الدول العربية لتحقيق التطور في الشرق الأوسط وصون النيل من كل مكروه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى