الكلمة في «الأدب الوجيز»: خلخلة الثابت والذوات المتعدّدة
كامل فرحان صالح
لم يعد خافيًا على المهتمين بالشأن الإبداعي الأدبي شعرًا ونثرًا، إدراك وقع فضاءات الكلمة وعوالمها في سياقاتها عبر خروجها على غير تفسير ومعنى، وكأن الكلمة تصبح نافذة تطلّ على مساحات رحبة من العلاقات والدلالات والمستويات…، فتبدو في حروفها القليلة المتصلة، قادرة على أخذ متلقيها، إلى حيث يريد في لاوعيه، وما يختزنه من ثقافة، وما عاشه من تجارب.
وإن كان ثمّة اهتمام تاريخي بـ»الكلمة»، وتركيز أساسي عليها في عمر الحضارات، لكونها المفتاح لأبواب التحوّلات الكبرى، فإن توظيفها اليوم، ضمن ما بات يُعرف باسم «الأدب الوجيز» يأتي في هذا السياق، إذ إن «الكلمة» لم تعد أيقونة هذا النوع الأدبي فحسب، بل هي «ماء النص» الذي يعكس ما تمور به روح المبدع والمتلقي، فيحمّلها كل منهما، مخزونه المعرفي، وانفعالاته الإنسانية الممتدة منذ خلق آدم من طين إلى يوم عودته إلى الطين.
لا يمكن للكلمة في الأدب الوجيز أن تكون، إلا في انزياحها عن معناها لتنحو منحى الدلالات/الحالات المتعددة، إذ يمكن للكلمة الواحدة أن تحمل قارئها إلى حالة من النور، وحالة أخرى من العتمة، حالة من القلق وحالة من الاستقرار، حالة من العشق وأخرى من الكره…، وهكذا هي في توليد مستمر للدلالات مع حالة كل قارئ. أما إن استقرت وثبتت، فقد انتهى ارتباطها بالأدب الوجيز عبر نوعيه: شعر الومضة، والقصة القصيرة جدًا.
لقد أُلزمت الكلمة في التراث الثقافي العالمي عمومًا، والعربي عمومًا، أن ترفق معها في النصّ، «قبيلة» من كلمات أخرى تشير غالبًا إلى المعنى نفسه، والدلالة نفسها، ما أرهق النصّ الإبداعي، بحمولات إضافية كان يمكن التخفيف منها، أو حذفها، وقد باتت الكلمة تكون، لمجرد أنها كلمة، أي كونها جسدًا من دون روح وقد يلحظ القارئ المتابع حضور هذه المشهد المزدحم بالكلمات في مئات النصوص السردية والشعرية القديمة، وإلى يومنا هذا.
يجيء الأدب الوجيز ليعيد نفخ الروح/الأرواح في الكلمة بدايةً، ومن ثمّ النصّ، فيدخل المبدع في لعبة السعي الحثيث إلى «الترشيق» بكلمة فاعلة وقادرة على أن ترفع في ذاتها وبذاتها غير معناها المباشر إلى معانٍ كثيرة، وأصبح عليه أن يعي في لاوعيه لحظة الكتابة، أن الكلمة في الأدب الوجيز، تتخذ عبر سياقها، حالات من الكشف اللانهائي، وإذ يخال «هو» بوصفه المرسِل أو «القارئ/المتلقي» بوصفه المرسَل إليه، أنهما يدنوان من رفع الحجاب عن المعنى، يجدان أنهما أمام حجاب آخر، في سفر ممتع يتخلله امتحان مستمر لقدرتهما على التخيل، والتفكّر، والفهم، والحفر/الغوص عميقًا في حقل الدلالات، والدوائر اللامتناهية….
يمكن القول إن فاعلية الكلمة في الأدب الوجيز، ترفض الانصياع لـ:
-المستوى الفلسفي، لكونها لا ترضخ لترويض الأذهان على «التنسيق المنطقي، والعرض التعليلي، وصياغة المحصّلات بأسلوب واضح ومقنع».
-والمستوى المعجمي، لكونها ليست «لفظة تدل على معنى في ذاتها الفعل والاسم ، أو باتصالها بسواها الحرف ».
-والمستوى الصوفي، لكونها ترفض أن تكنّى عن كل واحدة من الماهيات والأعيان والحقائق والموجودات، أي عن كل متعيّن. كذلك ترفض أن تختصّ بـ»الكلمة المعنوية» لكل ما هو معقولات من الماهيات والحقائق والأعيان، وبـ»الكلمة الوجودية» لكل ما هو غيبي وخارجي، وبـ»الكلمة التامة» للمجرّدات المفارقات.
– ….
إن شعار فاعلية الكلمة في هذا الأدب، هو التمرد، والتذبذب، والتغيّر باستمرار، فترفض الكلمة التنسيق وإن ترضخ للسياق، وترفض الهوية الأحادية، وإن تتغنّى بذاتيات كثيرة، وترفض التعيين المعنوي والوجودي والتام، وإن كانت تمارس ذلك، لكن وفاق تجلياتها الخارجة على كل ماهية وارتباط نهائي. وإن بدا أن معنى الكلمة يشابه الكائن الحيّ في ولادته ونموه وهرمه، إلا أنه يأبى أن يستسلم أو يموت، بل إنه في عودته إلى «التراب»، هو يمارس فعل ولادات بأرواح جديدة.
صحيح أن لكل كلمة عنصرين: صوت ومعنى، لكن يبدو من المفيد التأكيد أنه إذا كان عامل الصوت يرتبط بجرس ما عند التلفظ بحروف الكلمة، فإن العامل المتغيّر هنا، وهو ما يمكن القول إنه يساهم بكسر المفهوم التقليدي لهذه المقاربة، هو رحلة هذه الحروف وقد صارت كلمة محددة بدايةً، ثمّ وصولها إلى الأذن، ثمّ إلى الدماغ، أي عند تحوّلها إلى معنى يدلّ عليها. فالعامل المتغير هنا، هو التشظّي الذي يحدث في المرحلة الأخيرة فدلالة المعنى الإبداعي في الدماغ والمساهمة الفاعلة للمشاعر الذاتية في لحظة التلقي، لم يعد في الإمكان، أن تُحصر في اتجاه أحادي، بل يمكن القول إن الكلمة «ومعانيها» أصبحت قادرة على الاتساع والتعدّد والتشظّي في أبعاد متنوّعة ومختلفة، كلما كان المخزون المعرفي والثقافي للدماغ، والمخزون الشعوري للذات، غنيًّا.
في الخلاصة، لا يمكن الجزم أن الأدب الوجيز وفاعلية الكلمة فيه، هو وليد هذا العصر فحسب، بل يمكن للمتابع أن يتلمس سماته في غير عصر من العصور السابقة أيضًا. لكن ما قد بدا جليًّا أن هذا الأدب بدأ يتخذ مسارًا فاعلاً في الثورة الرقمية، ويمكن القول بثقة: إنه روح هذه الثورة عبر تجلياتها المتعلقة خصوصًا بالتعبير عن الذات/الفرد وتواصله مع الذوات/الأفراد الآخرين، وإن بدا أن هناك مزاحمة جديّة للكلمة من قبل عناصر أخرى في هذا العالم الرقمي، وقد يحتاج الحديث عنها إلى دراسات أخرى، ليس هنا مجالها.
أستاذ في الجامعة اللبنانية