«سوتشي وأستانة» نحو مصير غامض؟
د. وفيق إبراهيم
التغطية الأميركية الكاملة للهجوم التركي المرتقب على الأنحاء الشمالية والشرقية من سورية، تضع التقارب الحديث بين روسيا وتركيا على حافة الهاوية.
فهذا ليس عملاً عسكرياً عادياً يجسّد طموحاً تركياً لتوسيع النفوذ.
إنه خطوة استراتيجية تعيد ضبط تركيا في خانة الأهداف الأميركية الكبرى، ونسف تقاربها الحديث مع روسيا في سورية، بما فيها صفقات الغاز وملايين السياح الروس المسحورين بضفاف البوسفور وصفقات تجارية بين البلدين بمليارات الدولارات.
إلا انّ هناك جانباً آخر ألزم الأميركي للاستجابة للطموحات التركية واهمّها البحث الأميركي عن آليات جديدة لها القدرة على وقف تراجع نفوذهم في الشرق الأوسط انطلاقاً من بوابة سورية، وبما انّ المرحلة تتطلب إمكانات غير موجودة عند الكرد، فجرى تنحيتهم عن الموضوع الاستراتيجي والإبقاء عليهم في عمق الشرق والجنوب السوريين لاستخدامهم في مراحل مقبلة.
فما هو مهمّ للأميركيين حالياً هو تأخير الحسم في الملف السوري لتأخير الانهيار في هيمنة الأحادية الأميركية على الشرق العربي، وهذا لا يكون إلا بتوفير المزيد من الحروب في الميدان السوري.
لكن هذا الانقلاب التركي على علاقتهم السورية بروسيا يدفع قيادة الكرملين الى دراسة مواقف جديدة للتعامل مع انقرة، لأنّ الخلفيات الحقيقية تبدأ بهجوم عسكري ويليه مباشرة إسكان مليون سوري نازح في منطقة الشمال وقسم من الشرق تشكل فاصلاً بين ما يتبقى من مناطق الكرد السورية وبين تركيا، فيتطابق المشروعان التركي والأميركي في هذا المجال، فالأول يريد إنشاء كانتون مستقلّ يفصل كرد سورية عن كرد تركيا، والثاني الأميركي يجهد لتفتيت سورية.
ما هي انعكاسات هذا المشروع على العلاقات الروسية التركية؟ هذا الهجوم يصيب الاستراتيجية الروسية في سورية في التنسيق الذي بنته مع قوتين إقليميتين لهما حضور سوري وازن وهما إيران المتحالفة مع الدولة على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتركيا المجاورة لها والتي تتمتع بعلاقات عميقة مع فئات سورية من التركمان والاخوان المسلمين وبعض التنظيمات ذات العمق الإرهابي. وهذه وضعية سمحت لها بالدخول العسكري الى منطقتي عفرين وإدلب وبعض أرياف حلب.
لذلك أسّس هذا الثلاثي الروسي والتركي والإيراني هيئة استراتيجية هدفت الى التحوّل مرجعية اساسية للأزمة السورية في منافسة بدت واضحة مع الرعاية الأميركية الخليجية الأوروبية لمؤتمرات جنيف والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة في مراحل انتشار عشرات آلاف الإرهابيين في مناطق سورية من خلال الحدود التركية والأردنية والعراقية برعاية اقليمية وخليجية وأردنية وتركية غطاها الأميركيون سياسياً ولوجستياً.
لذلك عمل هذا التنسيق الثلاثي على إنتاج تفاهم لإشراف تركي على سحب الإرهاب من إدلب وصولاً الى عفرين في مراحل لاحقة.
وتواكب مع تحسّن في العلاقات الروسية التركية شملت بيع أسلحة وتطوراً في التبادل الاقتصادي.
لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ التقدّم في العلاقات بين روسيا وتركيا تواكب في حينه مع الإفراط الأميركي في الاتفاق مع الأكراد في شرقي الفرات، أما لجهة إيران فترافق تحسّن علاقاتها السورية مع الأتراك بازدياد العقوبات الأميركية عليها، وتصاعد الاستهدافات الخليجية لها سياسياً ولليمن عسكرياً مع محاولات لإعادة جذب العراق الى الفلك الخليجي ودعم محاولات لتفجيره داخلياً.
ما استجدّ بالنسبة لأردوغان انّ العرض الأميركي بسيطرته على قسم من شرقي الفرات، لبّى حاجته الى مسألتين: طموحه العثماني الاخواني الذي كان مصاباً بخيبة أمل نتيجة نجاح الدولة السورية بتحرير معظم الغرب السوري والجنوب، وإحساسه انّ هذا العرض الأميركي يلجم أيّ اندفاعة من أكراد سورية نحو عشرين مليون كردي تركي متجاورين جغرافياً، كما أنه يلبّي من جهة ثانية الحاجة الأميركية، فتعود أنقرة الى دائرة الاهتمام الأميركي الكبير كآلية لديها طموحها في العراق ايضاً، فكردستان العراقية التي تتمتع بإدارة ذاتية، في إطار الكيان العراقي تخيفهم ايضاً على الرغم من علاقاتها الاقتصادية الكبيرة مع آل البرزاني على مستوى التجارة في النفط العراقي من كركوك وإعادة بيعه في اسواق تركيا والعالم. هذا بالاضافة الى العلاقات الاقتصادية المتنوعة.
تكشف هذه المعطيات عن لعب تركي على كلّ الاطراف الاساسية في الأزمة السورية، لانها الطرف الخارجي الوحيد الذي لا يزال يدير «اخوان سورية» وتركمانها وبعض المعارضات من أصول متطرفة في حين انّ دوائر النفوذ الخليجية والأوروبية والأميركية لم تعد تمسك بقوة سورية وازنة.
إلا انّ هذا الأداء التركي يزعج روسيا وإيران اللتين تشعران انّ كلّ درجات التنسيق مع تركيا وصلت الى حائط مسدود، الأمر الذي يضع مرجعية أستانة وسوتشي في دائرة الخطر بعد استكمال تركيا هجومها العسكري وليس قبله، لأنّ أردوغان خبير في تقلبات السياسة الترامبية. لذلك لن يرمي بسرعة مرجعيته في أستانة قبل تسلمه فعلياً مرجعية أكبر في شرقي الفرات.
لذلك فإنّ أستانة وسوتشي، في وضع صعب يدفع بطرفيها الروسي والإيراني للبحث عن سبل جديدة لمحاصرة التقلبات التركية التي تعمل بعقلية «تجار البازار».
ما يؤكد أنّ أهمّ هذه السبل هي في تطبيق سريع لمخرجات أستانة وسوتشي بخصوص إدلب، وذلك بتقدّم سريع للجيش السوري لطرد الإرهابيين منها بمساندة روسية.
كما أنّ إسراع الأكراد بالعودة الى دمشق هي الضربة الثانية التي لن تتحمّلها العدوانية الأردوغانية.
وهذا يضع كامل المشروع التركي في شمالي سورية في مواجهة مع الدولة والأكراد السوريين، وهؤلاء قادرون على طرد الأتراك نحو بلادهم ودفع الأحادية الأميركية الى مزيد من التدحرج الى أسفل.