بين فلسفة الأسطورة وفلسفة التجريد تناغم ومحاكاة لونية بصرية بين سموقان والصغير
نظام مارديني
وسط احتفالية حاشدة افتتح معرض «آفاق سورية» المشترك للفنانين السوريين، فنان الدهشة الكبير، محمد أسعد الملقب بـ«سموقان»، والفنانة ـ الظاهرة، الدكتورة سلوى الصغير، والمقام في «غاليري اتليه» في اللاذقية حيث عرضا أعمالاً جديدة وقديمة، وبحضور جمهور واسع من المهتمّين والمتذوقين للمعارض الفنية، ولاحتفالية كهذه تُخرجه من حالة اليأس والتيه إلى حقول الأمل.
أقول إنني هنا سأكون أمام مهمة ليست بالسهلة إذا ما أريد لنا أن تكون رؤيتنا شاملة حول أعمال هذا المعرض، وسأحاول أن أتلوَ قراءتي بعمق. فالوقوف عند هذه القراءة أشبه بمقاربة وانبعاث أسطوري ـ تجريدي/فلسفي، لذا علينا أن نكون ملمّين بالتاريخ والأسطورة والمدارس الفلسفيّة والتشكيليّة لنخرج بنتيجة تكشف وتوضح مضامين اللوحات المعروضة. فالفنانان موجودان بوضوح في لحظة لوحاتهما، على الرغم من اختبائهما خلف ألوانهما، وكلٌ منهما له طريقته، بل ويخيل له أن اللوحة وطنه!
بودّي في مقدمة هذه القراءة تأكيد أن أهم ما يمكن استخلاصه من هذا المعرض، واللوحات التشكيلية المعروضة فيه والمبهجة في تقنياتها، هو توغّل الفنان سموقان في الترميز وفي تجريد الأسطرة.. وتوغّل الصغير بدورها في أسطرة التجريد حافية التعقيدات، وكلاهما، سموقان والصغير، يهدفان بذلك إلى تحفيز المتلقي وأشغال عقله نحو فكرتهما الفنية، حيث المفهوم يروّض العين ويستدرجها أكثر في لاوعي ما يجول حوله.
فالفنان سموقان لم يُغرق في الألوان الداكنة رغم حضورها وطغيانها الضوئي على اللوحة. والصغير لا تغيب في تفاصيل الأبعاد الهندسية وهي لذلك تملئ مضمون لوحاتها بالنور والسطوع.
فلوحات المعرض للفنانين الجميلين، تأخذنا إلى حيث اشتباك تلك الألوان بالأفكار، وإلى حيث أن تكون الأسطورة والتجريد بوصفهما تجسيداً بصرياً ومجالاً تكوينياً تتشكل من خلالهما فضاءات هذه المحاكاة، التي تفتح للعين المشاهدة حدساً لرؤية ما هو خبيء تحت كتل الألوان، واشتباك الخطوط من إيحاءات، ومن دفق بصري يسعى إلى لذة الاكتشاف، وإلى إبراز فاعلية التحويل والتأويل في حمولات الفكرة في كل من لوحة الأسطورة ولوحة التجريد، باعتبارهما طاغيتين في المعرض.
المدهش سموقان.. لغة اللون والضوء
ليس من السهولة الكتابة عن أعمال فنان تشكيلي كسموقان له بصمات مهمّة على صعيد الحركة التشكيلية السورية، وأحد المشاركين في تأسيس أهم الملتقيات والندوات والتجمّعات الفنية في هذه المنطقة الساحلية السورية.
ما يستدعي نزعة الفنان سموقان التعبيريّة لتوسيع مساحات الواقعية لديه، كمحاولة للانغمار في تقانات التشكيل، والتكوين، وإحالة المديات البصرية في الرموز الأسطورية والحيوانية محور اللوحات إلى أفكار، وإلى صراعات، وإلى مستويات دالة، هو محاولته استثمار أقصى طاقات الخامات اللونية، وباتجاه أن تكون هذه المستويات غامرة بوجوه شائعة، وكأنها تهجس بنداء عميق لنا، بوصفه التعويض الإيهامي عن الغياب والمحو والانعزال والوحدة، والرغبة في الانشداد الى الحلـم.
فمخزون الفنان سموقان المعرفي واطلاعاته على نواحي تاريخه وأساطيره جعلته يفيض في رؤاه التي لم توقعه في مطبات التسطيح والابتذال، لانه بالاساس لم يتعاطى مع موروثه الحضاري كمادة لا حياة فيها بل حرّكها في فضاء لوحته التي أصبحت وكأنها مرآة تعكس فيها ملامح الأمس بظلال الحاضر ورؤى الفنان، ولكن بقي السؤال هو، كيف يمكن أن يوازي الفنان سموقان بين الحداثة والتراث، وبين الفكرة وكيفية التعبير عنها، ليعيد صياغتها وفق منظوره الخاص، وبلغة اللون والضوء؟
هكذا يجد الفنان سموقان مقاربته التعبيرية الجمالية عبر معطيات الكثافة اللونية في اللوحات، ما يمكن أن يجعل القراءة البصرية متواترة ومستنفرَة، تلك التي تدفع إلى استكناه ما يمكن أن تحمله لوحات عدة من أفكار وهواجس، وما يمكن أن تثيره أيضاً من دهشة ومن غرائبية صادمة للمتلقي، تلك التي تبدو متدفقة عبر شراهة توزيعها اللوني، أو حتى عبر سطوع رموزها الأسطورية والحيوانية، التي توازي دلالياً الرغبة المتخيّلة في أن يكون التكوين التشكيلي هو قناع الرائي والسارد الذاتي. وهو الباحث عبر عينه اللونية عن دلالات ذهنية، أو عن حركات تستنفز أفقه البصري، أو ما يمكن أن يتشكّل في وعيه الظاهراتي، ذلك الذي يستدعي عبره الرموز بوصفها الفلسفي أو اللوني، الذي يضخّ بإيقاعات صاخبة
فحيث تغيب لوحات سموقان وتعود الملامح بقوة الألوان وكثافتها، والتقانة التعبيرية في اللوحات التي تنوعت، لذلك تأتي مزدحمة بالأفكار ومحتشدة بالكثير من الرموز التعبيرية، وحيث تتزاوج فيها القسوة والدهشة مع التأمل، فهو لا يحب اللوحة الصامتة، وكل من ينظر إلى لوحاته يسمع نبض الحياة، وضجيج رموزه الأسطورية، فيأتي التعبير بكل هذه الخطوط والألوان، وهذا ما يميز الصخب اللوني في أعماله كما يتميّز أسلوبه بقوة الثراء في معرفته لتوزيع التونات اللونية في لوحاته وتماسك عناصره الفنية، بل لنقل إنه لا يملك إلاّ أن يرى العالم مصبوغاً بألوانه التي يغلب عليها في الكثير من القتامة، فاللون بالنسبة له هو المقترح البصريّ لممارسة الاكتشاف، مثلما هو المجس الذي يلامس به الوجود والوجوه واليوميات والتفاصيل، وأن تتحوّل استعاراته اللونية والخطّية إلى بنى وتكوينات تفضي إلى ما يشبه سيمياء الصدمة!
لوحاته مختلفة في الأشكال لكن متآلفة في الواقعية والتعبير، فهو يبحث عن واقعية تعبيرية ذات هوية سورية حضارية، من خلال إعادة تشكيل اللوحة وتكويناتها ومن ثم اختراقها نحو الترميز والعلامتية، وبودي هنا الإشارة إلى لوحتين جداريتين مهمتين:
جدارية بعل العالمية بحق، فهي جدارية بحاجة لمن يتعمّق في قراءتها بتجرّد والوقوف أمامها ليفكّك دلالاتها ورموزها الإبداعية الكثيرة والغوص في أعماقها المثيرة. وهذه الفرشاة النافذة البراعة كأنها ترسم حروف فكرية/تاريخية بمنظار تساؤلي، يصيغ عليها معطيات «مغامراته» الأسطورية، محاولاً بذلك أن يدهش الملمح التكويني للاتجاهات.
إن البقاء في هذا التكوين، الواقعي التعبيري.. هي عملية رصد من خلال مخيّلة إبداعية واسعة وقويّة ومخيفة!
ولوحة الشجرة، أو شجرة الحياة، لو تأملناها جيداً وفهمناها لعرفنا تماماً كيف يلوّن هذا الفنان المدهش، أحلامه وأفكاره، وأين يذهب بضربات بفرشاته، ما يستدعينا الوقوف أمام كثافة الفكرة وطريقة رسمها، شجرة تتشامخ عالياً وجذور تمتدّ عميقاً في باطن الأرض وتقف على ارض صلبة.
هي عملية توازن وإيقاع تشكيلي للوحة، لأن الأمر بالنسبة إليه، يتعلّق بإيقاظ الإحساس برؤية الاشكال تترابط وتتبادل وكأنه حوار وتبادل رؤى بين الخطوط التي تتواصل، والألوان التي تتجاوب، والكتل التي تتوازن، وكأننا أمام عناصر تأخذ مكانها في حركة ثابتة.
وهكذا، يذهب بنا سموقان في مقامه البصري، حيث تصبح اللوحة محيطاً لا ضفاف له. فهو يخاطب حسّنا المشترك ويؤسس للغته الواقعية التعبيرية ذات البلاغة التسجيلية الآسرة، التي تنهض آثارها المشهدية كمتاهة رمزية في حياتنا.
سأختم هنا بالقول، إذا كان شاعر كأدونيس أو محمد الماغوط ومحمود درويش، يستطيعون عن طريق المفردة أن يرسموا لنا عوالمهم، فإن رسّاماً كبيراً كسموقان قادر هو أيضاً أن يرسم لنا عن طريق الالوان عوالمه الخاصة به ويتركنا في «صدمتنا» نبحث عن الجمال والإبداع.. والدهشة.
الصغير.. اللوحة الهندسية
يمكن تصنيف هذه المشاركة للفنانة سلوى الصغير بأنها الأولى في تجربة المعارض، وإن شاركت سابقاً مع مجموعة من الفنانين السوريين في معرض تحية للفنان الراحل «هيشون» بلوحتين أو ثلاث. فلوحاتها المعروضة اليوم ناطقة بلغة تجريدية وفق مقوّمات واقعية، غير أن الفكرة لديها هي التي تكشف لنا أهميتها.. أي أن الفكرة البصرية اللونية هي التي تُعبر لنا عما تسعى إليه هذه الفنانة ـ الظاهرة، التي تحرّر أعمالها هنا من كل القيود وتعبّر بتلقائية وحرية مفتوحة على كل المفردات الفنية، وكأنها تبني عمارة هندسية من الأشكال للتفاعل مع نظامها الفضائي التجريدي الواقعي بأنساق دلاليّة تطاوع رؤاها البصرية الخارجة عن المألوف، ولإغناء توجهها الفني التشكيلي لاكتشاف غير المرئي والمستتر في الأشياء ذاتها وطريقة وجودها.
ألوانها المبتهجة جاءت من صخب الأفكار وكثرة الأحاسيس المفعَمة بالأمل والتفاؤل، ولكن ألوانها بقيت مزيجاً وخليطاً بين الاتجاه التجريدي والمنحى الواقعي، حيث تستلهم الفنانة، في تجريداتها، روح الفكرة، لبناء وعي يستند إلى قوة الحياة في اللون، ومساحاته في تلوين هذا الواقع بجرعات متوازنة من فلسفة تذوّق الحياة ومواجهة مجاهيل الكون وهو في حالة تيه.
يقول الفنان الروسي مهادين كيشيف «اللوحة التجريدية الجيدة التصميم لا تأتي من فاعل الصدفة والعفوية بل إنها تحمل مقياس وقواعد أساسية كما هي اللوحة الواقعية». ويضيف ولكن «الفن التجريدي أصعب من الواقعي لأنه يحتاج لدقة وأن لا ينقص أم يزيد فيه شيء.. يخطئ التفكير من يظنّ أن الفن التجريدي هو سهل التصميم لدى اي إنسان، ويُخطئ الجمهور الذي لا يعرف هذه المفاهيم».
في لوحاتها شيء لا صورة، والشيء في فلسفتها التجريدية مادة قابلة للمسّ كما هي قابلة للرؤيا. اما الاختلاف والتنوّع ففي معالجة مستوى المواضيع والأسلوبية التي تميّز أعمالها فلأن كل لوحة تحمل سر وجودها، هي أعمال تبحث عن منفذ ينفتح على فضاء واسع في تطوير التجربة التجريدية وقواعدها البصرية.
في هذا المعرض تنطلق الفنانة الصغير، من تصوّر خاص لمفردة أرسطو القائلة بأن «الغرض من الفن هو تجسيد الجوهر السريّ للأشياء وليس استنساخ أشكالها». وهي لذلك تنظر إلى الجمالية كفكرة موحّدة ومتكاملة بشكل منسجم لتوسيع مدارك لوحتها وألوانها في هذه التجربة المتطورة بعناصرها الجديدة. وهذا ما يقودها الى فضاء مفتوح في البحث الدائم عن تقنيات التعبيرية التجريدية تلك التي تتوسم فيها تلبية هدفها الأساس بتأكيد بصمتها الخاصة فيها من الحس الجمالى وروح الابتكار ما يدهش المتلقي.
التجريد عند الفنانة الصغير، لا يعتبر محاكاة فنية لشيء ما، بل هو غاية للوصول الى فنّ خالص يعبّر عن ذات ويسعى لتقديم نماذج تحمل بين تدرّجاتها اللونية معاني جديدة وإضافات مبتكرة من خلال النظر في كل جزء من أجزاء اللوحة ومدى ملائمته لخدمة الفكرة، بخاصة أن الفن التجريدي هو لغة اللون البصري، عبر طغيان واضح للألوان الصريحة التي تشير بوضوح لمخزون الذاكرة البصرية المعروفة بسطوعها اللوني. وقد لفتني تعليق للفنان سموقان على مواقع التواصل حول اللوحة التجريدية وأهميتها، إذ يقول رداً على تعليق لأحدهم يهاجم الفن التجريدي، إن «الفن التجريدي هو موجّه للبصيرة أكثر مما هو للبصر ومن ليس لديه بصيرة لا يمكنه التفاعل مع عمل تجريدي».
كان بودي لو أتمكن من قراءة أعمالها جميعاً في هذا المعرض، ولكن لضيق المساحة المعطاة لي في صحيفة «البناء» سأكتفي بتقديم قراءة مقتضبة للوحتها الهندسية، التي تؤكد سيرها نحو مشروعها الكبير في «هندسة الكم» الذي كانت قد حدّثتني عنه في معرض سؤالي عن مشروعها الكبير نحو فهم جديد للفن.. إذ تدرك الفنانة الصغير، إن – خلق رؤيا ذهنية عن العالم او تكوين مفهوم جديد بالرسم هي من أخطر ما يستطيع فنان ان يغامر في تقديمه، في عالم معاصر يقوم اصلاً على النظريات والفرضيات والافكار المغايرة والمحسوبة بدقة الرياضيات، ما لم يكن ملماً حقاً بموضوعه ومادته.
لذلك فهي في هذه اللوحة تتخطّى كل الفرضيات لتتحوّل إلى لعبة حركية بصرية هندسية فتضع الفنانة أشكالها، بطلاقة علمية وفي محاورة سيميائية علم الإشارات والعلامات تقترن فيها قصديّة الفعل بعفوية المادة، لتخرج بالشكل من رؤيته المعهودة، نحو صياغة بصرية ـ تشكيلية هندسية، مفتوحة للتساؤل عن هذا الكم الضوئي لقياس كثافة الرؤيا وتدرّجها في الحقل الرياضي.. بمعنى قياس الكثافة ومساحاتها الضوئية في جسيّمات اللوحة، وحيث لا تبدو طبيعتنا الفيزيائية بعيدةً في جوهرها وغموضها عن هذا التساؤل الذي دفعتنا إليه الفنانة الصغير دفعاً باتجاه إشغال العقل العلمي في قراءتنا السيميائية لهذه اللوحة المهمة.
وبطبيعة الحال هذا لا يقلل من فضاءات اللوحات التشكيلية الأخرى المعروضة في فضاء «كاليري اتليه»، التي تتميّز بألوانها وشدة الضوء وشدة التكوينات وهندسة التشكيلات التي تكوّن نسيج اللوحات المعروضة لكل من فنان الدهشة، سموقان، والفنانة الظاهرة الصغير.
في الختام، سيبقى السؤال راهناً، ذاك الذي سيراود الوسط الفني التشكيلي هو، كيف لنا أن نتلمّس وجدانية الفنانة الصغير في لحظة وجدها ودهشتها، بوصفها فنانة مُعاصرة تنتمي للزمان والمكان؟ وكيف لنا أن نحسّها في التشكيل الفني، هذا التشكيل الممتلئ بالمساحات المرئية في كل لوحة تقوم بتنفيذها، من انغماس لوني، وعناصر جمالية وإيقاعية، مسكونة بالقلق والسؤال الفلسفيّ، وكأنها تتحدّث عن روايات زمانية سابقة، وحكايات مكانية لاحقة ومستقبلية.
إن الرسم لدى الصغير، الفنانة ـ الظاهرة، هو كالعزف على الكمان.. أي هو وسيلة للتعبير عن أفكارها لتحريرها من سجنها فتخرج من الوجدان لترقص مع اللون على موسيقى اللوحة المسكونة بالحياة.