الياس عشي: الأوبانيشاد تؤكّد وجود عقل يتجاوز العقل كنتيجة لتجربة روحية وحدْسية
نصّ المداخلة التي ألقاها الأستاذ الياس عشي في مركز الصفدي الثقافي – طرابلس – تاريخ 2019/10/16 وقد شارك في المداخلة الدكتور مصطفى الحلوة، وصاحب الترجمة الدكتور نبيل محسن، وأدارت الندوة الدكتورة نادين العلي .
وجاء في مداخلته: على الرغم من كل المحاولات التي جرت، وما تزال، للفصل بين الأدب والفلسفة، وبين الطبيعة وما وراءها، ظلت العلاقة بين هذه المكونات حميمة، ودافئة، وقريبة من الطابع الإنساني المركب من مشاعر وأخيلة وأفكار. وفي العودة إلى السؤال الذي طرحه الدارسون، حول هوية أبي العلاء المعري الفكرية، تتوضّح تلك التوأمة بين الفلسفة والأدب، وذلك عندما تساءلوا :
هل أبو العلاء شاعر فيلسوف، أم هو فيلسوف شاعر؟
ثم ألم يتقاتل الباحثون حول هوية صاحب كتاب كليلة ودمنة ؟ كلنا نعرف أن الكتاب هندي المنشأ، كتبه بيدبا الفيلسوف، وقدمه لدبشليم الملك، ومن ثَمّ تُرجم إلى الفهلوية الفارسية، إلى أن جاء عبدالله ابن المقفع ونقله إلى العربية .
إذن أين المشكلة؟
المشكلة كانت في الترجمة إلى اللغة العربية، تلك الترجمة البديعة التي قام بها ابن المقفع: حسنُ اختياره للألفاظ بحيث تكون اللفظة المناسبة في المكان المناسب، وقدرته على التميّز بأسلوب وصفه النقاد، على مرّ العصور، بالسهل الممتنع، وبعدُه عن التصنع، وبثُّ الروح الإسلامية في الكتاب. كل هذا شكك الباحثين بهوية الكتاب، وغالى بعضهم بشكّهم ونسبوا التأليف إلى المترجم !
إذن نحن اليوم نتحلّق حول كتاب الأوبانيشاد الروحانيّ الطابَع، الخارجِ من خزائن الهند، تماماً كما خرج من قبلُ كتابُ كليلةَ ودمنة. وكما فعل ابن المقفع عندما نقله من لغة فارس إلى لغة العرب، كذلك فعل الدكتور نبيل محسن فنقل الأوبانيشاد من الإنكليزية إلى العربية .
ولن أخفي عليكم التردد الذي أصابني عندما طلب مني الصديق الدكتور محسن أن أراجع الأوبانيشاد مخطوطةً، لإبداء رأيي في الترجمة التي قام بها، فالتجارب التي خضتها في هذا المجال لم تكن مشجّعة، بل كثيراً ما كنت أتراجع عن التزاماتي وأعيد المخطوطة إلى صاحبها، مع ملاحظة واحدة: الترجمة الحرفية تلغي النص .
وفاجأني الدكتور محسن الطبيب الفيزيولوجي اللامع، بحسن ترجمته لمؤلف ذي طابع روحاني صرف: عبارة متماسكة، جمل قصيرة، ألفاظ تناسب الموضوع، دقة في الانتقال من مقطع إلى آخر، وندرة الأخطاء اللغوية. لنقرأ معاً مقطعاً صغيراً لنتعرف على الأسلوب الانسيابي عند المترجم :
نصل إذاً إلى التأكيد على وجود مبدأ كلّيّ الإدراك أعلى من العقل، ويفوقه في طبيعته ورؤيته وقدرته. لأن الأوبانيشاد تؤكد وجود عقل يتجاوز العقل كنتيجة لتجربة روحية وحدْسية، ووجوده هو أيضاً نتيجة ضرورية لوقائع التطور النوعي .
اسمحوا لي، أيها السادة الحضور، أن أشير إلى لفظة حدسية التي لفتني حسن استعمالها، والتي تعني السرعة في الفهم والاستنتاج، بحيث يصعب أن تحلّ لفظة بديلة مكانها تلك هي البلاغة. شرح الفكرة بالاستناد إلى فعل قطع .
عندما اختار الدكتور نبيل هذا الكتاب لنقله إلى اللغة العربية كان يعرف تماماً ماذا يريد، وكان يسعى، من خلال هذه الترجمة، إلى سدّ فراغ في المكتبة العربية، من هنا كان قوله في المقدمات:
… والمكتبة العربية تفتقر بشدة لأي ترجمات جدّيّة للنصوص الدينية والفلسفية الهندية. كما أن الجامعات والمعاهد العربية غير مهتمة بترجمة هذه النصوص ودراستها دراسة مقارنة ، وإن ساعدت هذه المساهمة في سدّ فراغ في المكتبة العربية. فالأمل أن تثير اهتمام جيل جديد من الباحثين المستعدّين لخوض غمار الفكر الشرقي عموماً والهندي بشكل خاص، وأن تحفّز آخرين على التفكير والتأمل وإغناء تجربتهم الروحية .
للترجمة والنقل، أيها السادة، دور أساس في ثقافات الأمم، فالدولة العباسية جعلت من عاصمتها بغداد أمّاً للعواصم، لأنها كتبت، وترجمت، وتعرفت إلى ثقافات السريان، والهند، وفارس، واليونان، وغيرها من الثقافات التي تبوتقت معها، وهضمتها، وزادت عليها. وكذلك أوروبا يوم أرادت أن تخرج من خرافة بحر الظلمات ، ومن إرهاب محاكم التفتيش، لجأت إلى الترجمة، فنقلت، على سبيل المثال وليس الحصر، رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ولولاها لما تعرفنا على جحيم دانتي .
يقول الجاحظ في معرض الدفاع عن الكتاب وعن مؤلفه: لأن كلّ من التقط كتاباً جامعاً، وباباً من أمهات العلم مجموعاً، كان له غنمه، وعلى مؤلفه غرمه .
وما ينطبق على المؤلف ينطبق على المترجم .
صدّقوني أيها الأعزاء أن قراءتكم لهذا الكتاب الفريد في النوع والشكل، ستفتح أمامكم أبواباً من المعرفة، وآفاقاً من التجارب الروحية في عصر كئيب، ومزيف، ودموي، ينام ويستيقظ على روائح النفط والغاز .
شكراً للدكتور نبيل محسن الذي أضاف إلى المكتبة العربية كتاباً روحانياً مشرقياً، ما كان لنا أن نعرفه لولا الجهود المضنية التي بذلها المترجم لتكون الترجمة بمستوى الكتاب .