تقدير أوّلي لحساب الأرباح والخسائر للحرب على سورية
زياد حافظ
تسارع الأحداث في المشرق العربي بعد التطوّرات الأخيرة في بلاد الشام والرافدين وخاصة بعد دخول قوّات الجيش العربي السوري إلى منبج تؤكّد أننا على أبواب نهاية الحرب الكونية على سورية وأنّ استكمال سيادة الدولة على كافة الأراضي السورية أصبحت مسألة بضعة أسابيع على الأقلّ أو بضعة أشهر في الحدّ الأقصى. فقرار الرئيس الأميركي بالانسحاب من شرق الفرات رغم المعارضة الشرسة له من قبل مراكز القوّة داخل الدولة العميقة تنذر بأنّ تحوّلاً استراتيجياً في السياسة الخارجية في المشرق العربي أصبح وشيكا. وإذا كان هناك من يشكّك في جدّية ذلك القرار بحجة أنّ الرئيس الأميركي اتخذ مثل ذلك القرار سابقاً وتراجع عنه في ما بعد بسبب الضغوط التي تعرّض لها فإنّ المعادلة الداخلية الأميركية في الوقت الراهن تسمح له باتخاذ ذلك القرار سواء كان بحجة الضرورة أو كان ناتجاً عن قناعات. ليس الغرض هنا عرض أسباب ذلك القرار بل نكتفي بالقول إنّ الرئيس الأميركي وضع على قمة هرم المؤسسة العسكرية من يدين له الولاء بينما في السابق لم يكن الأمر هكذا. فوزير الدفاع مارك إسبر ورئيس هيئة الأركان الجديد مارك ميلي ولاؤهما للرئيس الأميركي. لذلك وقفت المؤسسة العسكرية وراء القرار الرئاسي ودعمته. لم تحصل أيّ تسريبات توحي بوجود خلاف داخل المؤسسة وهذا ما أربك الإعلام الشركاتي الموالي للكيان الصهيوني وللحزب الديمقراطي.
المهمّ هنا الوقوف عند تداعيات ذلك القرار وعرض تقدير أوّلي لقائمة الرابحين والخاسرين من جرّاء القرار الرئاسي الأميركي. الرابح الأول والكبير وبدون أيّ شك أو مواربة هو الشعب السوري والدولة السورية وقيادتها. فالدولة السورية على عتبة إعادة كافة سيطرتها على الأرض السورية رغم وجود رمزي موقت للقوّات الأميركية في التنف، والذي فقد جدواه ومبرّراته بعد «التخلّي» الرسمي الأميركي عن حماية جماعة «قسد» وأكثريتها الكردية. كما أنّ جيب إدلب الذي تجمّعت فيه عصابات الغلوّ والتوحّش برعاية تركية أصبح موقعه الاستراتيجي في الحرب الكونية على سورية قاب قوسين وأدنى. فاستعادة إدلب إلى كنف الدولة مسألة وقت وليست مسألة إذا ولن يطول. فعامل الوقت هو فقط لتجنّب خسائر في أرواح المدنيين. لكن في آخر المطاف إدلب ستعود الي كنف الدولة السورية.
كلّ ذلك لم يكن ليحصل لولا الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري الذي أثار الإعجاب في كلّ من الدوائر الأميركية المختصة والدوائر الصهيونية. احترافية الجيش العربي السوري تلازم مع عقيدة قتالية صنعت نصر تشرين 1973 وصنعت اليوم الانتصار في الحرب الكونية على سورية. مساعدة الحلفاء العرب والإقليميين والدوليين أمر لا شكّ فيه وكانت نتيجة أولا لصمود الجيش السوري وثانياً متمّمة لذلك النصر. فقرار الانسحاب الأميركي من شرق الفرات قد يكون المحطّة ما قبل الأخيرة قبل انتهاء الحرب الكونية على سورية ولا يمكن مقاربة ذلك الانسحاب إلاّ في سياق الحرب بأكملها.
المنتصر الثاني هو محور المقاومة الذي سيكتسب القيمة المضافة من الحفاظ على سورية بعد الحرب الكونية عليها ويحوّلها إلى فائض قوّة يوظّف في أهداف محور المقاومة. فلا يجب أن ننسى أنّ السبب الرئيسي للحرب الكونية على سورية كانت لإخراج سورية، وإنْ لزم الأمر تدميرها، من حلبة الصراع العربي الصهيوني. هنا يكمن النصر الاستراتيجي الذي حققه الجيش العربي السوري ومحور المقاومة.
المنتصر الثاني هو تعاظم الدور الروسي ليس في سورية فقط ولكن في المشرق العربي والإقليم. فقدت الولايات المتحدة قوّامتها في المنطقة وخاصة في تركيا وحتى في الخليج حيث التفاهم العربي الإيراني برعاية وضمانات روسية وصينية شرط ضرورة لاستقرار المنطقة الحيوية للعالم. الخروج الاستراتيجي للولايات المتحدة من المشرق العربي والخليج أمر لا مفرّ منه وإنّ وجودها في المنطقة هو فقط لحماية الكيان الصهيوني. والولايات المتحدة ستعوّل كثيراً على روسيا لضبط إيقاع تحرّك محور المقاومة تفادياً لصدام مع الكيان الصهيوني لأنّ وجهة نظر روسيا تختلف عن وجهات نظر محور المقاومة. فما زالت روسيا متمسّكة بقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي لحلّ الصراع العربي الصهيوني بينما محور المقاومة لن يقبل إلاّ بالتحرير الكامل وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم. لن يشكّل هذا التباين شرخاً في العلاقة التحالفية بين محور المقاومة وروسيا رغم الرهان الأميركي عليه غير أنّ التطوّرات داخل الكيان وداخل صفوف الشعب الفلسطيني كفيلة بتغيير المفاهيم والأولويات في روسيا وحتى في الولايات المتحدة. هذه قضية تستحق نقاشاً معمّقاً ولكن في ورقة لاحقة.
روسيا وإيران لعبتا اللعبة الطويلة مع تركيا. استطاعتا ضبط الرئيس التركي عبر إغراءات اقتصادية لم يستطع الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتحدة تقديمها لتركيا. رويداً رويداً تتجه تركيا نحو الشرق، نحو بيئتها الطبيعية الناتجة عن موروث تاريخي امتدّ على أكير من ستة قرون حاولت جمهورية اتاتورك التملّص منها. فكلّ ما هو مناف للفطرة وللتاريخ والجغرافيا لن يدوم مهما كانت موازين القوّة في ظرف ما. الاتحاد السوفياتي انهار لأنّ العقيدة التي كانت تتحكم به تجاهلت بديهيات تحرّك سلوك الشعوب والأمم. وكذلك الأمر سيكون لتركيا. في آخر المطاف يمكن القول إنّ في الحدّ الأدنى يتمّ تحييد سلبيات وجود تركيا في الحلف الأطلسي تمهيداً للحدّ الأقصى الذي سيشكّله خروج تركيا منه عاجلاً أو آجلاً. هنا كانت عبقرية الدبلوماسية الروسية والإيرانية في مواجهة الولايات المتحدة. فالأخيرة استطاعت إخراج أفغانستان من الفلك السوفياتي في الثمانينات وتمهيداً لسقوط الاتحاد السوفياتي فإن روسيا وإيران اليوم على وشك إخراج تركيا من الحلف الأطلسي.
المنتصر الثالث هو الرئيس التركي الذي يستطيع أن يقول إنّ الخطر الكردي على حدوده الجنوبية قد تراجع إلى حدّ كبير هذا إنْ لم يختف كلّيّا. فخيارات قيادات ما يُسمّى بـ «قسد» محدودة ولا مفرّ لها إلاّ التفاهم مع الدولة السورية وقيادتها. هذا يعني حلم الدويلة المدعومة أميركياً وصهيونياً وخليجياً لن يتحقّق. كما إعادة إحياء اتفاق أضنة 1998 أو استبداله باتفاق آخر ولكن في نفس الاتجاه وبرعاية روسية وإيرانية قد يضمن الحق التركي لحدود آمنة. لكن ذلك الاتفاق لن يحصل إلاّ بعد موافقة الدولة السورية وضرورة مراجعة القيادة التركية لسياستها في سورية. فتركيا هي التي اعتدت على سورية وليس العكس والتنازلات المطلوبة هي تركية. اما «حصّة» تركيا في الحلّ السياسي في سورية فهذا يعود للشعب السوري الذي قد يغفر ولكن لن ينسى الدور التركي. وليس هناك من قوّة تستطيع إملاء أيّ موقف على سورية خاصة بعد كلّ ما حصل وبعد الصمود الأسطوري. انفتاح القيادة السورية على الحلول والتسويات هي من حقها وليس من واجبها إلاّ بالمعنى الاستراتيجي الذي يحكم الصراع العربي الصهيوني ومصلحة سورية العليا.
المنتصر الرابع هو الرئيس الأميركي الذي هزم بهذا القرار الدولة العميقة والمحافظين الجدد والمتدخّلين الليبراليين. يستطيع الرئيس الأميركي القول إنه يفي بعهوده الانتخابية بسحب القوّات الأميركية من ساحات قتال في حروب عبثية لا فائدة لها للولايات المتحدة وذلك رغم زعيق الإعلام الليبرالي المتصهين والداعم للحروب المستدامة على العرب والمسلمين. استطلاعات الرأي العام المناهضة بشكل عام لأداء الرئيس الأميركي، وإنْ كانت «ملغومة» أو موجّه من قبل المستطلعين، بكسر اللام لم تستطع إخفاء تأييد أكثرية الأميركيين لقرار الانسحاب. فترامب يقرأ المزاج الشعبي بدقة بينما خصومه يسقطون على الشعب الرعية! رغباتهم وكأنه حقيقة لا مفرّ منها. لذلك لا نرى كيف يمكن عكس قرار ترامب بالانسحاب من سورية تمهيدا لانسحاب الولايات المتحدة من المنطقة ربما في ولاياته الثانية. لا يجب أن ننسى أنّ الرئيس الأميركي ورث الحروب التي أطلقها أسلافه في البيت الأبيض من بوش وأوباما. ويفتخر الرئيس الأميركي أنه الوحيد الذي لم يطلق حرباً جديدة وهنا تناقضه مع الدولة العميقة وما يُسمّى بحزب الحرب في الولايات المتحدة.
اما الخاسرون فهم في المرتبة الأولى الكيان الصهيوني ومن تحالف معه من دول عربية خليجية. والنخب الصهيونية داخل الكيان وخارجه اعتبرت الخروج الأميركي خيانة عظمى ما يجعل الكيان يواجه منفرداً محور المقاومة. وقيادات الكيان تقرّ بعجزها عن تلك المواجهة بمفردها. هذا يزيد الإرباك الداخلي في الكيان ويؤكّد وهنه.
أما الدول العربية التي راهنت على الولايات المتحدة وأو الكيان الصهيوني فهي في حالة إرباك وتحاول تخفيف خسائرها بالهرولة نحو التفاهم مع الجمهورية الإسلامية في إيران. فالقرار الأميركي بالانسحاب من شرق الفرات في سورية ينسجم مع سياق رغبته في عدم المواجهة المباشرة مع الجمهورية الإسلامية في إيران والتي راهن عليها كلّ من الكيان وبعض الدول الخليجية. هذا يعني أيضاً سقوط الرهان على الحماية الأميركية الذي تحكّم بالقرار العربي بشكل عام والخليجي بشكل خاص لمدة امتدّت على سبعة عقود. هذا تحوّل استراتيجي يصبّ في مصلحة الكتلة الاوراسية الصاعدة.
والاتحاد الأوروبي خاسر كبير وفي مقدّمته فرنسا والمملكة المتحدة وإلى حدّ ما المانيا. فهذه الدول راهنت على جماعات التعصّب والغلو والتوحش التي تمّ دحرها بفعل صمود الجيش العربي السوري وبفعل مساندة محور المقاومة وروسيا. أما الأكراد، فخسارتهم في الحدّ الأقصى نسبية حيث يعودون إلى وضع ما قبل الأحداث وفي كنف الدولة السورية. الأحلام والأوهام التي راودت بعض القيادات الكردية بإقامة دولة كردية على أرض عربية كانت مجرّد أحلام وأوهام لا تستند إلى وقائع التاريخ والجغرافيا. المواطنة التي تعرضها الدولة السورية كفيلة بتحقيق كافة الحقوق والموجبات لجميع مكوّنات المجتمع السوري بما فيه المكوّن الكردي دون أيّ تمييز ولا على قاعدة الهويات الفرعية بل على قاعدة المواطنة بشكل عام. هذا إنجاز ينهي كلّ أحلام المراهنين في المنطقة العربية على كيانات مبنية على الهويات الفرعية التي لا تؤدّي إلاّ للدمار والتجزئة والتبعية والفقر والجهل والانحطاط وأخيراً إلى الزوال. والتفاهم بين الدولة في سورية وجماعة «قسد» قد يشكّل هزيمة استراتيجية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التي كانت وراء إغراء قيادات «قسد» بالخروج على الدولة في سورية.
عدد من المواقع في الولايات المتحدة قرأت بشكل دقيق التطوّرات الأخيرة. فعلى سبيل المثال وليس الحصر كان موقع «قمر الاباما» من المتابعين الدقيقين للتطوّرات الميدانية في سورية وفي كافة الساحات الساخنة العربية. موقع «استراتيجيك اند كلتشر فونداشن» المؤسسة الاستراتيجية والثقافية عرضت قراءة عن النصر الذي حقّقه الرئيس الأميركي في الملف السوري. موقع «سيك سمبر تيرانيس» للضابط المتقاعد في الاستخبارات العسكرية الأميركية العقيد بات لانغ والذي يعلم عن قرب المنطقة العربية ويجيد اللغة العربية كان من المتابعين بدقة التطوّرات الميدانية وقرأها بشكل جيد. وكذلك الأمر لموقع «انتي وار» المناهض للحرب الذي أسّسه الراحل جاستين ريموندو وهو من المحافظين الجمهوريين التقليديين. هذه بعض المواقع كانت نقيضة للقراءة التي يروّجها الإعلام الشركاتي المهيمن في الولايات المتحدة وحتى في أوروبا. ولذلك يمكن اعتبار ذلك الإعلام المهيمن من الخاسرين حيث بات واضحاً أنه كان وما زال بوقاً لحزب الحرب والمجمّع العسكري الصناعي الأميركي الذي لا ينتعش إلا بالحروب على الآخرين.
انتصار سورية قد يشكّل بداية نهاية مرحلة الضعف العربي المبني على قاعدة التجزئة. من حق الكيان الصهيوني أن يرتعب من ذلك التطوّر لأنه سيعجّل في نهايته وخاصة من داخله. النصر في شمال سورية سيليه النصر في التنف وفي إدلب، ومن بعد ذلك ستتوجّه الجهود لتحرير الجولان. والمحنة التي مرّت بها سورية ومعها كلّ من آمن بالعروبة ومشروعها النهضوي لم تؤدّ إلى سقوط سورية وسقوط المشروع بل إلى تقويته لأنه الردّ الوحيد والوافي والموضوعي على كلّ المشاريع البديلة التي روّجها المستعمر القديم الجديد والثقافة الاستشراقية المتلازمة مع الثقافة التغريبية للنخب العربية في محاولة لطمس الوعي العروبي بين أبناء الأمة العربية.
كاتب وباحث اقتصادي وسياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي