تشكُّل الوعيّ الجمعيّ، حيثيّات ودلالات
أمين الذيب
الجماعة، في الاجتماع البشري، توافُق يقيني تشترك فيه مجموعات متجانسة، تلتقي على مفهوم أو مفاهيم تتبنّاها كنمط فكريّ اجتماعيّ سياسيّ اقتصاديّ أدبيّ فنيّ، تنشأ من خلاله شخصيّة مجتمعيّة تنطبع بطابعه، وتتكوّن وجهة النظر الى الحياة التي تُبنى من خلالها علائق مُستقرّة في حركيتها ونتاجها الفكري والأدبي والإيديولوجي.
الوعيّ هو إدراك الفرد أم مجموعة من الأفراد أو مجتمع، للذّات الوجوديّة، والقدرة على التعبير عنها بسلوكٍ عارف بما يُحيط به ومُدرك لحركيّة الوجود، كما يعتقدها أو كما بُنيت مُعتقداته في الدين والسياسة والاجتماع.
ماهيّة الوعي الجمعيّ في حيثيّاتها تقوم على المعارف المُكتسبة أم المتوارثة أو المُتأثِرة بغيرها، أو المُستفيدة من السياقات الفكريّة والفلسفيّة التي ظهرت وعُرِفت في المسار الإنسانيّ منذ ملحمة جلجامش حتى الآن. وهذا يطرح السؤال الاستدلالي، هل مارس الإنسان حريّة التفكير والاختيار أم تظافرت عوامل وأسباب حرفته عن مساره الإنساني واعترضت الحقائق بأوهام مركّبة ترتكز على مُعضلة الموت والولادة والخلود، فنشأت الملاحم والأساطير والأحداث الدينيّة التي وظفت الآلهة وخاطبتها وخاطبته ليترسخ في المفاهيم البشرية يقينيات تعمّمت على البشريّة قاطبة.
إن مرتبات الوعي وتباينها بين جماعةٍ وجماعة، خلقت عصبيّة جامعة في المديين المعياريّين على المستويات الوظيفيّة التوافقيّة التي تعتمدها الجماعة المُحددة في زمان ومكان محددين ترتشدان بالقيم والتقاليد القائمة في الوعي المُشترك، كقاعدة تشترك فيها الجماعة، والخروج عنها يُعتبر تنكّراً وشذوذاً على القاعدة يستوجبان العقاب.
الوعي التجانسي القائم على اليقينيات المتوارثة كثابتٍ قيميّ، والناتج عن الارتباط الميتافيزيقي كقدَرٍ محسومة نتائجه سلفاً، أتاحَ استتباباً نمطيّاً يدور في حلقةٍ لا منافذ توصلها الى المعارف والمدارك الاستنباطيّة والبحثيّة والاستنطاقيّة كقوة تجاوزيّة تتطلّع الى ابتكار أزمانٍ جديدة مغايرة للمعارف السابقة، وقد شهد التاريخ البشريّ أحداثاً هامّة ومفصليّة، تمثلت بالتنكيل والقتل والتعذيب والتنكّر لأي فكر تجديديّ استكشافيّ إبداعيّ فكانت تُحرق الكتب المخالفة لليقينيات الثابتة، التي كان لها التأثير الكبير على مسار التقدّم الإنسانيّ، وإعاقته من خلال التنكّر للفكر الإنساني التجاوزي.
دأبت العقول الباحثة عن سرّ الوجود، في الفلسفة والأدب والشعر والعلم، لتُنجز معارفها وتُنمّي وعيها الوجوديّ الذي لا زال يكتنفه الغموض، القصديّة هنا محاولة التحرّر من الأثقال الوظيفيّة الرتيبة، التي لا زالت تشكّل عائقاً يربك الفكر الاستنطاقي الباحث عن المكنون والمكبوت والمستتر في الروح وفي الكون، في الوقت الذي حسمت فيه اليقينيّات مسارها ومعارفها ومداركها وأوكلت حياتها وفكرها ومصيرها الى خالق يدير أمورها بما يشاء.
يقول موريس بلانشو بما معناه، إن ما بعد الخيال هو صمتٌ هائل، وكان أشدّ المدافعين عن الرومانسيّة التي تجاوزت الواقع بمداركها التخيليّة، وخلقت عوالمها الشفيفة الخارجة على السائد الفكري والديني والإيديولوجي والنقدي الذي عمل عليه أرسطو.
الأدب الوجيز انبثقَ كهويّة تجاوزيّة جديدة، تقوم على معايير لغويّة ومنطلقات فكريّة قادرة على تأسيس مذهب أدبي جديد يتعدّى ما سبقه من فكرٍ نقديّ كالرومانسيّة والتفكيكيّة والدادئيّة والبنيويّة وسواها، ليخلق زمناً أدبياً جديداً يرتكز على الاتساع الداخلي في اللغة وطاقة المفردة والإيقاع الداخلي والتكثيف المتحرّر من الحشو والمداورة والاستدارة في النصّ، وأنجز فلسفة الشكل والمحتوى كحالة ثوريّة جديدة.
إن ما دفعني للكتابة عن معضلة الوعي، إنما كان الأزمة أو الأزمات التي تعاني منها مجتمعاتنا، التي نعترف بها حيناً ونتجاهل التطرق اليها احياناً لكونها تمسّ الشخصيّة الفرديّة أو شخصيّة الجماعة التي انطبعت بها.
الوعي الفردي، في مجتمعات متآكلة ومتخبطة ومُنقسمة، تنشأ عادة شخصيّة الفرد المكتفية بذاتها والمنغلقة على سواها، فتتسع الدائرة الفرديّة الأنانيّة، ومن خلالها يرى الخطأ والصواب، فتتحول طاقته الى طاقة نفعيّة محصّنة بأساليب ملتوية هدفها الاستفادة الذاتيّة بغضّ النظر عن المنظومة الأخلاقيّة القيميّة، فيتحوّل الى دائرة صغيرة بين مثيلاتها، تتحرك ضمن دائرة الجماعة الكبيرة بشكل تصادمي لتناقض المصالح والغايات والأهداف، فتنتفي طاقته الفاعلة والمنصهرة في مصالح الجماعة، لتبرز كطاقة فرديّة خارجة بمصالحها الضيّقة على مصالح الجماعة. وهذه الظاهرة تعتبر في علم الاجتماع من أشدّ الظواهر السلبيّة التي تشكّل خطراً مُحدقاً على الجماعة التي ينتمي اليها، وما يثير الانتباه تعاظم الظاهرة الفرديّة في مجتمعاتنا، حتى كاد كل فرد أن يتحوّل الى محور يدور حوله العالم، لا يعترف بالآخر ولا يقيم له وزناً بغضّ النظر عن الملاءة الفكريّة أو الثقافيّة أو العلميّة، هذا يحدث في المجتمعات المتخلّفة.
الوعي الجمعي، وهو ينقسم الى قسمين، يقيني طوباويّ وفكريّ إبداعيّ، وسأتناول في هذا المقال القسم الفكريّ الإبداعيّ.
لا شك اطلاقاً في أن طاقة الفرد تتبلور عندما تتحول طاقة فاعلة ومؤثرة في المجتمع، وفلسفتها الاجتماعية تقوم على أن يضيف الفرد الى شعوره بنفسه ورغباته وطموحاته، شعوره بالذات المجتمعيّة ورغباتها وطموحاتها ومصالحها كأنها مصالحه. هذا الوعي يتطلب تكافؤاً بين أفراد المجتمع الهادف الى التطور والتقدم في المسار الإنساني، أي أن تجتمع مصالح الفرد وغاياته مع مصالح المجتمع الذي يحيا فيه، هكذا تنشأ الوحدة الروحيّة بين الأفراد الذين تتشكل منهم شخصيّة المجتمع في دورة الحياة الأفقية والعموديّة في تشابك العلائق بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والارض. وهذا يحدث في المجتمعات الحضاريّة المتطورة.
إن مخاض التغيّير لا يزال عسيراً، ليس في مجتمعنا فقط إنما في كافة المجتمعات التي نشترك معها في الحياة على هذه الكرة الأرضيّة، وبناءً على ما تقدّم أرغب أن أضع تجربة ملتقى الأدب الوجيز كنموذجٍ يعزز ما قلناه.
نشأت فكرة الملتقى منذ ما يزيد على خمس سنوات، أقام خلالها الندوات والمؤتمرات، واللقاءات الحواريّة في البلدان التي يتشكّل منها: لبنان، سورية، العراق، الأردن، فلسطين المحتلّة، تونس، المغرب والجزائر, وقد نشرنا عشرات المقالات التنظيريّة والنقديّة في الصحف المحليّة والعربيّة، وبعد أيام قليلة سيصدر كتاب نقدي بعنوان الأدب الوجيز هويّة نقديّة جديدة، اشترك في كتابته أكاديميون وأدباء شاركوا في مؤتمر الأدب الوجيز في بيروت في حزيران الماضي، وسيصدر العدد صفر من مجلّة الأدب الوجيز الثقافيّة في كانون الثاني من العام 2020. كل هذا النتاج الفكري النقدي يرتكز على روحيّة المؤسسة التي أرساها الملتقى، وإن التثاقف المستمر بين أعضاء هذا الفريق المبدع ساهم بتطور الرؤيا ودفعها لتنجز تأصيل النوع وتأصيل المصطلح نحو مذهب أدبي جديد، وتكمن القيمة التي يتمتع بها الملتقى أن كافة الإنجازات والابتكارات التي أنجزها الملتقى والتي تحدث في عالمنا للمرّة الأولى، هي ملك الملتقى الحصريّ، فالفرد يعمل لمصلحة الجماعة والجماعة تعمل لمصلحة الفرد، فقد تحوّل الملتقى الى حالة متقدّمة في الإنتاج الفكري، لم تصل بعد الى الذائقة العامّة ولكنها تموضعت وأثبتت حضورها رغم الذين يحاولون تجاهلها أو معارضتها أو مهاجمتها. المؤسف أن كل هؤلاء لم يقرأوا شيئاً من رصيد الملتقى الفكري، لذلك ندعو الجميع للانخراط في الحوار كي نبني معارف تليق بنا وبمجتمعاتنا التائقة الى التقدّم والارتقاء.
مؤسس ملتقى الأدب الوجيز