التفسير الليبراليّ للظاهرة التكفيريّة
د. إبراهيم علوش
يشيع هراء أجوف في أعمدة بعض من يزعمون أن الظاهرة التكفيرية نتجت في الأساس عن «الديكتاتورية والفساد والاستبداد» و«تهميش المواطن ومصادرة حقوقه الأساسية». النتيجة المنطقية لهذه المقولة تصبح بالطبع أنّ تبنّي «الديموقراطية» و«الانتخابات» و«حقوق الإنسان» و«استقلال القضاء» و«رقابة السلطة التشريعية على التنفيذية» كفيلٌ بإزالة ذلك التهميش السياسي والاجتماعي الذي يدفع المواطن إلى الغلوّ والتطرف، وأن «الإصلاح السياسي والدستوري» هو الأقدرُ على تجفيف منابع التكفير والإرهاب!
الطريف سياسيّاً في هذه الرؤيا أنها تنتهي لتبرير أو حتى لتبنّي مواقف أطراف دموية وهمجية أقل ديموقراطية وانفتاحاً وتنوّراً واستعداداً لـ«تقبل الآخر الليبرالي» بكثير من «الديكتاتورية والاستبداد» اللذين يفترض بحسب المنطق الليبرالي أنهما استفزا ظاهرة التطرف الدموي والتكفير إلى حيز الوجود! فالليبرالي الذي يدافع عن تكفيري في مواجهة «الديكتاتورية والاستبداد» المزعومين متناقض مع نفسه بمقدار ما تتخطى ديكتاتورية التكفيري الحيز السياسي إلى الحيز الشخصي والاجتماعي والثقافي مقارنةً بأي نظام سياسي ديكتاتوري حقاً، مع التحفظ الشديد عن اعتبار انتفاضة 30 يونيو الشعبية في مصر «انقلاباً»، واعتبار العشرية السوداء في الجزائر أو ما يحصل في سورية اليوم «نضالاً لأجل الديموقراطية»!
يستند التكفير في خطابه إلى منطلقات دينية فقهية من القرون الوسطى في الأساس، أما الديكتاتورية والاستبداد فيمثلان ظاهرة سياسية أساساً من نتاج الدولة الحديثة، على الأقل من الزاوية التي يتناولهما الليبراليون من خلالها، ولا يتبنى التكفيريون نموذجاً سياسياً مناهضاً للديكتاتورية يقوم على تعميم الحريات السياسية مثلاً أو غير السياسية، بل على اعتراض متعصب على الحداثة، لا على الديكتاتورية والاستبداد، فمشكلة التكفيري هي مع الدولة الحديثة سواء كانت ديكتاتورية أو ديموقراطية، وليس واضحاً تماماً كيف يربط الليبراليون بين انتهاك حقوق المواطن أو مصادرة العملية السياسية من جهة، ورمي الآخرين بالكفر بذرائع دينية لا تكتفي باتهام الحكام بأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، بل تكفر مجتمعات برمتها، حتى لو كان جلّها من المسلمين، لأتفه الأسباب أحياناً. فمشكلة التكفيري أيضاً أنه لا يؤمن بالمواطنة لأن عقله السياسي مستقى من المرحلة الإقطاعية في أقصى حالات تعفنها، أي مرحلة الطوائف والرعايا والقنانة، أي أن جذوره الفكرية ليست مستمدة من وحي التجربة السياسية للقرون الأخيرة.
فإذا كان التفسير الليبرالي للظاهرة التكفيرية كنتاج للديكتاتورية تفسيراً فرويدياً يحوّل «الكبت السياسي» للأنا العليا إلى عقدٍ نفسية مستعصية لدى الفرد التكفيري يمكن أن تتفجر على شكل نزعات إجرامية، فإن المطلوب يصبح تحليلاً نفسياً، أو مصحة نفسية بالأحرى، للمجتمع العربي، وربما يكون مثل ذلك ضرورياً لفهم الحالات الهروبية التي تشكل بعض قواعد الحركات التكفيرية، وحالات الهرب ليست في أيّ حال ما صنع الظاهرة التكفيرية، بل من لجأ إليها.
ولو افترضنا جدلاً أن الظاهرة التكفيرية هي نتاج الديكتاتورية والاستبداد بالمفهوم الليبرالي، كيف نفسر تكاثر التكفيريين في باكستان التي يحكمها نظام برلماني فيدرالي يقوم على تداول السلطة وتوزيع الصلاحيات بين المركز والحكومات المحلية؟ وكيف نفسر تكاثر التكفيريين في ليبيا والصومال والعراق بالضبط بعد تفكيك الحكومات المركزية «الديكتاتورية» في تلك البلدان؟ وكيف نفسر تكاثر التكفيريين في الهند وفي أوروبا الغربية نفسها حيث تسود حكومات «ديموقراطية ليبرالية»؟ وفي اليمن بعد إضعاف حكومته المركزية؟ وفي دول أفريقية ليست الحكومة المركزية قوية فيها أصلاً؟! أو في لبنان؟ أو في تونس بعد وصول حركة «النهضة» إلى الحكم؟
فلنفترض جدلاً أن الديكتاتورية تشكل عاملاً رئيسياً في تفاقم ظاهرة التكفير، لماذا لم تنشأ تلك الظاهرة إذن بين البوديين في تايلند خلال السنوات المنصرمة لفرض النظام البودي حسب تفسير البوديين التكفيريين على أبناء دينهم أو بين الكاثوليك في تشيلي بعد حكم بينوشيه أو بين الأرثوذكس في دول أوروبا الشرقية التي حكمتها أنظمة اشتراكية على مدى عقود وهي الأنظمة التي يعتبرها الليبراليون قمة الديكتاتورية؟! وإذا كانت الديكتاتورية محرّكاً لظاهرة التكفير، لماذا لم نرها في عشرات الدول التي عاشت أقسى أنواع الديكتاتورية على مدى عقود في أميركا اللاتينية وآسيا؟ وهل كانت حملات قتل مئات آلاف الشيوعيين وأنصارهم في أندونيسيا في نهاية الستينات بذريعة التكفير، علماً أن الشيوعيين لم يكونوا في الحكم آنذاك، نتاجاً للديكتاتورية المزعومة و«التهميش» أيضاً، أم نتاج شيء آخر؟ ولماذا ظهر التكفير المسيحي في أوروبا كتيار جارف أنتج الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال في القرون الوسطى تحديداً وليس بعد عصري النهضة والتنوير؟ لماذا ظهر التنوير في الوطن العربي فيما كان يظهر التكفير في أوروبا، وظهر التكفير في الوطن العربي بعدما انتشر التنوير في أوروبا؟ وأخيراً، لماذا ظهر التكفير اليهودي في التوراة أولاً وفي تعاليم التلمود على شكل قصص إبادة للأقوام غير اليهودية في فلسطين وجوارها فيما جاء مؤسسو الحركة الصهيونية من العلمانيين؟
الواقع أن التكفيريين هم دعاة إقصاء وتنكيل وتهميش واستعبادٍ وقتل جماعي، والدليل أن القضايا التي يكفِّرون الحكام والمجتمع بأسره عليها غالباً ما تتصل بـ«التساهل» في مسائل اجتماعية وثقافية وشخصية يعطيها الخطاب التكفيري معظم الأحيان أولوية أعلى بكثير من القضايا السياسية والاقتصادية الأساسية في المجتمع «الكافر». إنهم، باختصار، لا يعارضون الأنظمة العربية أو يعادونها، بعدما حالفوها مراراً، للأسباب نفسها التي قد تجدها لدى شخص ليبرالي، ناهيك عن شخص قومي أو يساري أو وطني أو إسلامي متنور، بل بسبب تفاهات… أو حتى بسبب ما قد نعتبره نحن إيجابيات. إنهم يعارضون مسار عقارب الساعة إلى الأمام، ويريدون إعادتها بالقوة إلى الوراء، فهم أصلاً نتاج صدمة حضارية للمجتمع العربي وأزمة هوية، لا نتاج مشروع حضاري، بل هم النقيض التاريخي للمشروع الحضاري العربي، ونتاج التعثر التاريخي لذاك المشروع.