سباق شرس بين شعب يريد الاندماج ودولته الرافضة

د. وفيق إبراهيم

تكشف الانتفاضة الشعبية المتواصلة عن ميل جامح لدى اللبنانيين يناقض مسألتين: القوانين والدساتير التي نشأوا عليها وتحكم العلاقات في ما بينهم، وما تربّوا عليه في سنيّ تطوّرهم في العائلة والمدرسة من تباينات دينية وتاريخية.

لقد اخترعت كلّ طائفة ومذهب تاريخاً خاصاً بها يتناسب مع ضرورات الاختلاف مع «الآخر» اللبناني الذي ينتمي الى أديان أخرى. وتبنّت الدولة اللبنانية هذه «الابتكارات» لتؤكدها دستورياً وقانونياً، بما يحول دون أيّ علاقة اندماجية على مستوى وطني، حتى أصبح الانتماء اللبناني «فولكلوريا» خطابياً وشعرياً، يعود المواطن بعده إلى رحاب مذهبه ومقدساته الذين يستوطنون أعالي السماء ولكنهم يراقبونه بعناية من «رادرات» الدستور اللبناني على الأرض بأدوات مختلفة متخلفة مصنوعة من آليات الدولة، والدين.

كشف ظهر هذا التباين؟ كان الإعلام يقدّم صوَراً عن سيطرة كاملة للتباينات الدينية والزعماء على مناطق مقفلة لطوائفهم، وتكرّست في الأذهان أفكار وتناقضات اجتماعية كبيرة على أسس مذهبية عميقة وصلت الى حدود انغلاقهم ضمن مناطقهم التاريخية والاكتفاء بالنادر من العلاقات المتمرّدة على جغرافيا الانتشار المذهبي، فطريق الجديدة وعرسال وطرابلس أصبحت عناوين للتشدّد السني مقابل الجنوب والنبطية والبقاع للتعصّب الشيعي والشوف وعاليه للانغلاق الدرزي، أما الجبل فاستحال عنواناً تاريخياً «لغيتو» مسيحي يعود حسب ما تروّج له الدعاية الدينية في المنابر والأدب الى آلاف السنين.

للتنبيه فإنّ الدساتير عادة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي مع ميل الى إضافة بنود متقدّمة تدفع نحو مزيد من الحداثة. هذا ما فعلته دساتير الدول الأميركية والأوروبية واليابانية. التي وضعت مواد تؤسّس لاندماج بين مكوّناتها ونجحت.

لكن الدستور اللبناني موديل 1948، تعامل مع دولة حديثة يجب أن يبقى الموارنة ممسكين بها الى الأبد، أما لجهة دستور الطائف 1989 فتعامل بدوره مع ضرورة سيطرة ثلاثة مذاهب على الدولة التي تحوّلت الى ولايات طائفية بزعامة مجلس الوزراء ورئيسه، ووضع مادة حول ضرورة إلغاء الطائفية السياسية، لكن أحداً لم يقاربها وظلت حبراً على ورق دستوري مهترئ.

هذا هو دستور الطائف الذي سمح للسياسيين بأكبر عملية فساد في التاريخ السياسي للبنان الحديث لم يكتفِ بسرقة المال العام، بل دمّر الجامعة والقضاء والجيش والإدارة العامة بتعيين أنصاره في سدة رئاساتها وبين موظفيها.

إنها إذاً مرحلة 1992 ـ 2019 التي حوّلت لبنان الى مغارة علي بابا جديدة من ألفها الى يائها، فطوّعت الدين والإعلام لخنق المواطن بواسطة استعمال التباين الديني وسيلة لإثارة ذعر طائفي متبادل وعلى قاعدة أنّ حزب الزعيم يحميه من الطائفة الأخرى.

إنّ نتائج هذه السيطرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أدّت الى إفقار عام عند كلّ الطوائف الى حدود الجوع وسط تجاهل كامل من قبل الطبقة السياسية التي أرادت مواصلة استنزاف الفئات الشعبية بضرائب جديدة.

لقد تبيّن للنظام السياسي أنّ مساعيه للتفرقة الطائفية لم تؤدّ الى إحداث شرخ عميق بين الناس، والدليل انّ مئات الآلاف من اللبنانيين احتلوا الساحات العامة في المدن والقرى مطالبين بإسقاط طبقة الفاسدين واسترجاع الدولة المنهوبة وسط شعارات وطنية وطبقية نأت عن التأثير الطائفي الذي كان يعطّل حيويتها، كان لهذا دوي المفاجأة الصاعقة، خصوصاً حين تتبادل مناطق في طرابلس التحيات مع متظاهرين في صور والبقاع وطريق الجديدة وجبل لبنان، بما يؤكد أنّ البعد الوطني للبنانيين أقوى من النواحي الطائفية والمذهبية.

ما هي النتائج؟

هناك سباق شرس بين اللبنانيين وبين النظام السياسي على سيادة منطق من اثنين: إسقاط الطبقة السياسية أم نجاح النظام الطائفي في استيعاب التحرك الجماهيري؟

يبدو أنّ مشاريع النظام الإصلاحية عاجزة عن اللحاق بمطالب اللبنانيين وبات أسلوب «الترقيع» غير مجدٍ. فالدولة مصرّة على طائفيتها والمجتمع ذاهب نحو الاندماج في سباق قد يأخذ وقتاً وإشكالات احترابية.

لذلك فإنّ الصراع السياسي الاقتصادي بين اللبنانيين والطبقة الحاكمة يؤكد أنّ النظام الطائفي استنفد طاقاته على الاحتواء السلمي، ولم يعد بوسعه إلا العودة الى أسلوب القمع عبر تحريض القوى الأمنية والجيش، وقواه السياسية واستعمال التأثير الديني و»إسرائيل» والخوف على التماسك الاجتماعي والديني، والكثير من الشعارات البراقة، لكنها لن تؤدّي إلا إلى استمرار السباق بين اللبنانيين ودولتهم «لدسترة» مسألة الاندماج برفع شعارات المساواة بين المواطنين في العناصر الثلاثة للاندماج وهي المساواة بين اللبنانيين كمواطنين في السياسة والاجتماع والاقتصاد.

وهذا يتطلّب قانون انتخاب على أساس الدائرة الواحدة

ولتوفير الاطمئنان للطائفيين، يجب ربط هذا القانون بمرحلة انتقالية لعشر سنوات يجري فيها العمل بهذا القانون وفق المناصفة الطائفية وتقسيمات المذاهب والمناطق في مجلسي النواب والحكومة بشكل مؤقت إنما على أساس الدائرة الواحدة. هذا إلى جانب، فصل التعليم عن الدين في المدارس الرسمية والخاصة والجامعات والمعاهد وإقرار الزواج المدني.

هذه هي مقوّمات الدولة المدنية التدريجية التي ترمي بهذا النظام في كهوف التاريخ لمصلحة لبنان متقدم يسير نحو الديمقراطية، فمن ينتصر في هذا السباق الخطير: دولة الطوائف أم دولة اللبنانيين؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى