«كثرة الدق تفكّ اللحام»

علي بدر الدين

ما يشهده لبنان من تظاهرات واعتصامات بعناوين وشعارات عالية السقف وغير مسبوقة أسقطت كلّ المحرّمات والممنوعات السياسية والطائفية والمذهبية، لم يكن مفاجئاً وإنْ لم يكن متوقعاً بهذا الزخم والحماس والجرأة للخروج من السجن الكبير الذي وضعت فيه اللبنانيين وأحكمت أقفاله وقيّدت من في داخله بجنازير الحقد وبالترهيب والاستبداد والاستعلاء وفوقها تعبئة طائفية ومذهبية أقحمتها في معاركها غطاء لها لتواصل نهج الفساد والمحاصصة في كلّ صغيرة وكبيرة.

هذه الطبقة نجحت في تخدير بيئاتها الحاضنة التي نامت نومة «أهل الكهف» على أمل أن تصحو يوماً على ترجمة الوعود بالآتي الأفضل، لكن أملها خاب ولم يأتِ وظلّ معلقاً على حبال أمراء الطوائف والمذاهب والمصالح لا يطاله أحد إلا بقرار ورغبة هذه الطبقة التي راهنت على أنّ هذا الشعب المخدّر لن يفيق إلا بعد خراب الوطن وتحويله إلى مزارع وملكيات حصرية مسجلة باسمه وبأسماء عائلته، غير أنّ حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل، ولأنّ «كثرة الدق تفكّ اللحام» وقد أفلت «الملق» وكانت ليلة القبض على الطبقة الحاكمة والإطباق عليها مساء 17 تشرين الأول الحالي، بعد أن تحوّلت تظاهرة مسائية متواضعة بشعارات مطلبية إلى كرة ثلج تدحرجت وكبرت لتشمل كلّ لبنان بمناطقه وطوائفه وشرائحه الاجتماعية، ويمكن تشبيهها بتسونامي بشري لم يشهد لبنان مثيلاً له في مختلف الحقبات والعهود والحكومات ولا في تظاهرات فريقي 8 و14 آذار من العام 2005. هذا التسونامي الذي تخطى كلّ الحواجز والمعوقات السياسية والطوائفية والولاءات والانتماءات مما أثار الدهشة والإعجاب بقدرة الشعب اللبناني وإصراره على الانتفاض والثورة وصولاً الى التغيير المنشود للنظام السياسي الطائفي بكلّ مقوّماته ورموزه.

هذه الانتفاضة الشعبية الكبرى المستمرّة وانْ شابتها ثغرات ونواقص واتهامات فإنها فعلت فعلها وأربكت السلطة وأخافتها وحرّكت مياهها الراكدة وهي المطمئنّة على نفسها ومصالحها ومكتسباتها واستمرار إمساكها بالسلطة ومقدرات الدولة، وهي لم تعطها بداية الأهمية التي تستحق لاعتدادها بنفسها واستعلائها واعتقادها انّ فوق رأسها خيم الطوائف والمذاهب، وهي خط أحمر لم يجرؤ أحد على تجاوزه منذ اتفاق الطائف، وأنها قادرة على إسكات صوت الناس وإدخالهم في صراعات لا تنتهي، وهذا ما كان مجرّباً مع كلّ حراك شعبي مطلبي، مما أخاف أصحاب المطالب المحقة وأرغمهم على الانكفاء لاعتقاد منهم أنّ حراكهم لا طائل منه في ظلّ طبقة سياسية ممعنة في سياسة الفساد والمحاصصة وقد تحرق البلد وتفقر الناس لحماية مصالحها وثرواتها التي راكمتها على مدى 30 سنة.

غير أنّ رهان هذه الطبقة على قدرتها بإجهاض أيّ حراك شعبي مهما كان حجمه وكانت عناوينه كان وهماً أو نمراً من كرتون فسقط بالضربة القاضية أو بالنقاط في الشارع، لانها فوجئت أو لم تكن تتوقع أن يخرج المارد الشعبي من قمقمه أو يجرؤ على الانتفاض بوجه أولياء نعمته ويكسر الطوق الحديدي الذي لفّ عنقه وأصبح لا حول له ولا قوة.

هذا الخروج الحاشد للشعب والمصمّم على التغيير عن سلطة الحاكم وولي الأمر والنعمة ولو استطاع الاستمرار والصمود والصبر لقلب الأوضاع رأساً على عقب، وقد يحصل ذلك ما دام مصرّاً ورافعاً عناوين وطنية كبيرة ونأى بنفسه عن الطوائف والصراعات السياسية والحزبية ورافضاً لورقة الحكومة الإصلاحية التي سحبها رئيس الحكومة من جيبه وكأنه حكّ الفانوس السحري، ويبدو أنها كانت مخبّأة لحالة الطوارئ بعد أن عجز عن استعمالها وقت حاجة البلد إليها.

إنها ورقة إصلاحية ملغومة تتضمّن في الشكل قرارات إصلاحية غير قابلة للتنفيذ لأنّ العقلية السياسية المتحكمة بإدارة شؤون البلاد والعباد غير ممنهجة على الإصلاح ولأنها تحتاج إلى وقت ولجان والشعب فقد ثقته بالطبقة الحاكمة ولا يصدّق وعودها. ويبدو أنه لن يتراجع عن انتفاضته التي قد لا تتكرّر، ولن يقبل بورقة تسمّى إصلاحية لا تجسّد مطالب اللبنانيين ولا تعدو كونها خديعة جديدة وأنّ الخروج من الشارع غير وارد قبل تحقيق المطالب أو بعضاً منها والبداية استقالة الحكومة وبعدها لكلّ حادث حديث.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى