من يصرخ أولاً؟

علي بدر الدين

ثلاثة عشرة يوماً من التظاهرات والاعتصامات والشعارات ومن إقفال الطرق والمدارس والجامعات وتعطيل المؤسسات والإدارات الرسمية، وانعكاسها ضرراً جسيماً على اللبنانيين وخاصة الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة الذين يئنّون من ضغط وأعباء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وهم أصحاب المصلحة الحقيقية في التظاهر ورفع الصوت ضدّ الطبقة السياسية الحاكمة التي ما زالت تكابر وتعاند وتمعن في سياسة الفساد والمحاصصة من دون أن يرفّ لها جفن، وهي مصرّة على أن تصمّ آذانها حتى لا تسمع صرخات اللبنانيين وأوجاعهم وقهرهم المزمن المتراكم منذ 30 سنة، وأن تغمض أعينها وتتجاهل الأمواج البشرية التي تملأ الساحات والشوارع على مساحة الوطن وكأنّ ما يحصل لا يعنيها، وكأنّ هؤلاء المتظاهرين والمعتصمين والمعترضين بالنسبة إليها مجرد جراد منتشر وعابر لا خطر منه، مع أنها تتباهى بأنها مع حق التظاهر وأحقية المطالب من أجل حماية نفسها وإبراء ذممها وغسل يديها مما فعلته طيلة سنوات تحكمها بمفاصل السلطة.

إنّ مشهد الساحات بإيجابياته وسلبياته لم يفعل فعله لدى الطبقة الحاكمة أو يؤثر فيها ويضغط عليها لتحريك الجمعود والتعاطي الجدّي والمسؤول مع هذا المشهد الشعبي غير المسبوق في لبنان، والاستجابة لبعض المطالب أقلها التي تعترف السلطة فيها، وفتح كوّة في جدار الأزمة التي تنذر بالتفاقم والتصعيد، لا سيما بعد ان تبخرت ورقة الحكومة الإصلاحية التي لم تقنع جزءاً كبيراً من الشارع الذي فقد الثقة بالحكومة وبالطبقة السياسية التي أفلست الوطن واغرقته بالديون وصادرت مؤسّساته وعمّمت نهج الفساد والمحاصصة.

إنّ حوار الطرشان بين السلطة والمتظاهرين يعني أنّ المخارج والحلول معدومة وانّ مقولة مكانك راوح تنطبق تماماً على ما يحصل، والذي من شأنه إذا ما استمر ان يدخل لبنان في المجهول، وانّ عواقبه وتداعياته ستكون خطيرة وانّ المسكنات والتجاهل وغضّ الطرف لم يعد مقبولاً لأنّ المطلوب ان تخرج السلطة من عنادها وحساباتها واستعلائها وتستجيب للحدّ الأدنى من مطالب الناس الاجتماعية والمعيشية والخدمية، وهي قادرة على فعل ذلك لأنها المؤتمنة على مصلحة الوطن والشعب والمؤسسات ولامتلاكها عناصر القوة والإمكانيات، ولأنها أولاً وأخيراً هي ومن سبقها من عهود وحكومات مسؤولة عن الحرمان والإهمال والنساء والصفقات وتحويل البلد الى ملكيات خاصة تتنعّم فيها وعائلاتها وأتباعها وتحرم المواطن حقه وتسلبه كرامته وإنسانيته، وهذا كاف لقيام الثورة ومن أيّ شعب مقهور ومظلوم على من أهانه وأذله وأفقره وجوعه، مع أنّ قسماً كبيراً من اللبنانيين والمتظاهرين اليوم هم من ساهم مراراً بإعادة انتخاب وإنتاج هذه الطبقة السياسية المتسلطة، وهم الذين سكتوا واستجابوا للغرائز الطائفية والمذهبية والزعائمية التي كانت ولا تزال السلاح الأفعل لاستمرارها.

بتنا نخشى على الانتفاضة من الذين ركبوا موجتها وتجلببوا بالعفة والوطنية من جرّها الى غير مسارها وعفويتها وأحقيتها والذين يسعون إلى تحقيق ما عجزوا عنه في معارك وصراعات لأنّ ذلك سيشكل مقتلاً لها وتقويض أسبابها وحقوقها ومكتسباتها. وهذا يعني أيضاً مساعدة الطبقة السياسية لإعادة التقاط أنفاسها والانقضاض مجدّداً على المنتفضين والعودة بالأوضاع الى ما قبل 17 تشرين الاول الحالي. وهذا باعتقادي ما لا يتمنّاه أيّ متظاهر حرّ وشريف وصاحب حق. إنه قلق مشروع وله ما يبرّره في ظلّ تصرفات وسلوكيات بدأت وإنْ لم تبلغ بعد حداً مخيفاً، ولكنها مؤشرات غير مطمئنة قد تحرف الانتفاضة عن نزاهتها ومشروعيتها. ويبدو انّ الرهان على الوقت ليس في صالحها لأنّ فرص الاختراق تصبح متاحة أكثر للذين يحاولون الاصطياد في مسار المنتفضين.

ان حماية الانتفاضة وتلبية مطالبها في الاقتصاد والعدالة الاجتماعية وضرب الفساد في كلّ مواقع الدولة ومؤسساتها وهي من واجب السلطة ومسؤولياتها، وعليها الكشف عن القوى السياسية من داخلها أو خارجها المدعومة من دول أجنبية وفق ما يتمّ تداوله ومن هي الجهات الممولة وأهدافها، ولكن هذا لا يبرّر لهذه السلطة استمرار الاختباء خلف اصبعها وحجب حق الناس في حياة كريمة وفي محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة وغيرها الكثير.

انّ سياسة عضّ الأصابع ومن يصرخ أولاً لا تنفع وليست مقبولة لأنّ مقاربتها غير مضمونة النتائج، وعلى الطبقة السياسية الحاكمة التي التهمت الاخضر واليابس على مدى عقود ان تعترف وتتنازل وتستقيل وكفاها ما جنته وما راكمته من ثروات وكدّسته من أموال من دون حسيب او رقيب.

ويبقى القول انّ قطع الطرق وانْ كان من حق المنتفضين كوسيلة من وسائل الضغط المشروعة على أيّ سلطة غير انّ إطالته باتت تلحق ضرراً على المواطنين عامة، واعتقد انّ في جعبة المتظاهرين ما يكفي من وسائل وأساليب أكثر ضغطاً وتأثيراً على الطبقة السياسية المترنّحة والرافضة لمطالب الناس الذين ستكون الغلبة لهم في النهاية لأنهم أصحاب حق والحق لا يضيع ما دام وراءه مطالب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى