ما بين الاقتصاد التجميلي والاقتصاد المسموم
د. ماهر سنجر
شهدت السنوات الماضية حالة من تجميل الاقتصاد بالاشتراك مع المؤسسات الدولية مما أنتج اليوم ورما تجميليا اقتصاديا جديداً، وأحد أسبابه بأنّ الظاهر أفضل من الباطن وبأنّ الباطن غير جميل بل مسموم بجملة من المؤشرات الاقتصادية التي حملت فقاعة أغلقت كلّ سبل الحلّ وحتى ولو كانت على حساب الحلّ الخارجي الاستدانة من الخارج .
تلعب المؤسسات المالية الدولية اليوم دور جراح التجميل الذي يفرض عليك جملة من المؤشرات لخبراء «إنْ صحت التسمية» درسوا دون ذكر مدى صحة هذه الدراسات ومدى ملاءمتها للمؤسسات موضوع الدراسة وللاقتصاد الجزئي للدول المدروسة واستخلصوا مجموعة من المعايير أو المؤشرات الواجب تحقيقها من تلك المؤسسات والدول، والغاية الأخيرة منها خلق فقاعة تتفاقم مع مرور الأيام كلما اقتربت من تحقيق هذه النسب، فللزمن وقعه بالاقتصاد.
تأخذ هذه الفقاعة البعد الاقتصادي لكن المضمون اجتماعي سياسي تدميري بحت غايته تعزيز الفارق الطبقي والتأثير على النظم السياسية من خلال الاقتصاد المسموم، فمثلاً من قال بأنّ ضبط الانفاق العام قد يعزز من النمو الاقتصادي وهذا ما لم يحدث مع الكثير من الدول رغم الالتزام التامّ بتوصيات المؤسسات الدولية بهذا الشأن، كما أنّ هذا المفهوم لا يتوافق مع الكثير من الدراسات التي أشارت إلى خلاف ذلك، وحتى أنه لا يتوافق مع ما ذكر ببعض كتب الجامعات الأميركية والدراسات الاقتصادية التي تقول بأنّ الإنفاق هو المحرك للإيرادات والأرباح.
فتجميل الاقتصاد هو المعلن لكن الاقتصاد المسموم هو المقصد، وهذه حالة شبه ثابتة لدى المؤسسات والدول التي اتخذت من الاقتصاد التجميلي مساراً لها من اليونان إلى أفريقيا إلى مصر إلى لبنان… فحجم الاستدانة اليوم لدى معظم هذه الدول جعل من هذه الفقاعة تغلق الطريق لحلول أخرى إلا الأفعال التي يظنّها المواطن بأنها ناجعة كقطع الطرقات واحراق الإطارات وهذا غاية الاقتصاد المسموم.
فالسمّ يفتك بالاقتصاد رويداً رويداً من خلال تضخيم الفقاعة عبر جملة من الأدوات منها تعظيم حالة الفساد المنتشر بشكل غير مباشر وإدخال جهود الدول ومقدراتها ومواردها على كافة الصعد في دوامة خدمة الاقتصاد التجميلي المسموم وخدمة تحقيق مؤشراته الاقتصادية، فمثلاً لو طلبت إحدى المؤسسات المالية الدولية أن يبلغ معدل النمو 4 سنوياً وقد اقتربت الدولة المعنية من تحقيق ذلك ستجده يرفع هذه النسبة إلى 5.6 لاحقاً، وكلما اقتربت الدولة من النسبة الجديدة سيرفعها إلى 7 وهكذا مما سيجعل من الاقتصاد الكلي هو الغاية أما الاقتصاد الجزئي الذي يلامس الشارع وهموم المواطن فهو منسيّ بل مهمل عن غير قصد.
عادةً ما تغذت فقاعة الاقتصاد التجميلي المسموم على مستويين الأول داخلي من خلال الابتعاد عن الاقتصاد الجزئي وتعظيم صورة الاقتصاد الكلي، والثاني من خلال المؤسسات الدولية نفسها ووسائل الإعلام التي تصدر تقارير اعتمدت على جملة من محركات البحث وجملة من العوامل النفسية بُنيت خارج حدود هذه الدول ومنها تقرير رغد العيش وتقرير حجم الفساد وحجم الدين وتصنيف الجامعات والشفافية وغيرها والسؤال اليوم من أين كلّ هذه الإحصائيات عن دول قد لا يكون نظامها الاقتصاد مضبوطاً بشكل جيد وقد يكون اقتصاد الظلّ مسيطراً فيها.
بالإضافة لما سبق عن تغذية هذه الفقاعة تقوم المؤسسات الدولية بوضع نظام داعم إضافي لتغذية هذه الفقاعة التدميرية لإيصالها بالسرعة المطلوبة إلى الحجم اللازم للتأثير سلباً باقتصادات الدول وذلك من خلال إدخال لاعبين جدد كلّ فترة على الساحة الاقتصادية بهدف التأثير على حجم النمو الاقتصادي لتقتنع هذه الدول بأنّ المؤشرات والدراسات الموضوعة صحيحة، فمثلاً فجأة ودون سابق إنذار تدخل على الخط وديعة من دولة ما لدعم الاقتصاد المتهالك، بل بالأحرى لتسريع عملية التهالك الاقتصادي، وأقول وديعة لكونها قابلة للاستخدام دون توجيه للدخول في عملية النمو الاقتصادي العشوائي غير الممنهج والمخطط.
أودّ التأكيد على كلمة وديعة وليس استثماراً لأهدافها في التأثير على سعر الصرف لدى هذه الدول ولتأثيرها بإطالة فترة الوصول إلى المؤشرات اللازم تحقيقها وبالتالي تجرّع سمّ هذه المؤشرات رويداً رويداً، فالاستثمار له مفاعيله على الأرض من ناحية فرص العمل والتأثير بالإنتاجية والناتج القومي والنمو الحقيقي للاقتصاد، أما الوديعة فليس من الضروري أن تستثمر كما هو مطلوب منها.
ومن منظومة الدعم لهذه الفقاعة ما يطلق عليه التصنيف الائتماني الذي هو بوابة لإجبار الدول على تقبّل هذه المؤشرات وفرض عملية الاصلاح الاقتصادي، فكم مرة سمعنا في الصحف والأخبار الاقتصادية عن نية إحدى مؤسسات التصنيف الائتماني تخفيض التصنيف الائتماني لإحدى الدول، لتبدأ هذه الدول بالعمل الحثيث لوقف صدور هكذا تصنيف، فهل يعقل لشركة خاصة أن تلوي ذراع اقتصاد متكامل؟ والسؤال الحقيقي الواجب إطلاقه مَن وضع هذه المعايير للتصنيف؟ علماً بأنني أتذكّر من خلال دراستي بأنّ مؤشرات الفشل والنجاح للنظم الاقتصادية وللشركات لا تتجاوز بأحسن حالاتها /60 / للاقتصاد المنظم وللمؤسسات ذات الحوكمة الصحيحة.
فمن أجاز إسقاط ما نسبته /40 / من احتمال فشل هذه المعايير وعدم دقتها ومن أعطى مؤسسات التصنيف الائتماني الصلاحية بإصدار مؤشراتها دون طلب من الدول المقيمة؟ والسؤال الأهمّ الواجب طرحه كيف يمكن لمؤسّسات التصنيف الائتماني أن تفسّر نهوض دول صنّفت على المقياس/D/ أيّ الإفلاس المؤكد إلى تصنيف /AAA/ التصنيف الأفضل ؟ وكيف بدول لم تتبع وصفة الفقاعة التجميلية واعتمدت على الإنسان أولاً وأخيراً، وعلى مواردها ثانياً، أن تصل إلى مرحلة التأثير بالاقتصاد العالمي والصين نموذجاً ودول شرق أسيا أيضاً؟ وما رأي هذه المؤسسات بدول وصلت للتصنيف الممتاز وبدأت بالانهيار لدى تطبيق وصفات المؤسسات المالية الدولية؟ كلها تساؤلات مشروعة تكون الإجابة عليها من قبل المؤسسات الدولية بأننا سنقدم وصفة حلّ جديدة والغاية الخفية هي تعميق الجروح الاقتصادية.
فتعظيم فقاعة هكذا نوع من الاقتصاد والسهر على تغذيتها سيجبر القائمين على النظم الاقتصادية من الخوف من تمزيق هذه الفقاعة وذلك لعدة أسباب:
أولها: الخروج من دوامة الاقتصاد الدولي والدخول في حالة من التقوقع الاقتصادي.
ثانيها: حالة الانهيارات المتتالية في النظم النقدية والاقتصادية والمالية.
ثالثها: حالة الاختلاف بين توجهات وأهداف النظم الاقتصادية التي اعتمدت لأعوام سابقة وبين إمكانية تبني نظم اقتصادية جديدة وأهداف جديدة لمحاولة التخلص من الفقاعة.
رابعها: الفجوة بين أهداف العامة من الشعب وبين أولويات الدول التي اتبعت وصفة المؤشرات التجميلية.
خامساً: عدم معرفة كيفية الالتفاف على هذه الفقاعة وعدم توفر الخبراء والموارد والإمكانيات والوقت الكافي للقيام بهذا موضوع وخاصة مع شبه استنزاف تامّ للموارد.
سادساً: وصول الاقتصاد لحالة يرثى لها ودخوله في مرحلة الإنعاش مع كمّ من المؤشرات المرضية للخارج والبعدية عن احتياجات المواطن.
جملة من التناقضات في أداء المؤسسات المالية قروض ميسّرة على شرط أن تثبت من سعر الصرف في الموازنة العامة للدولة أو قروض في حال حرّرت سعر الصرف، أنا لا أنكر بأنّ لكلّ حالة اقتصادية ظروفها، لكن من الواضح اليوم بأنّ إدخال حالة التخبّط بالحلول وعدم الاستقرار في النظم الاقتصادية هو مفتاح لإدخال هذه النظم والدول في فقاعة الاقتصاد المسموم.
إن موضوع الاقتصاد التجميلي المسموم هو إنذار للجميع، فالمؤسسات المالية الدولية التي بظاهرها بُنيت على قيم وأهداف تنموية اقتصادية اختلفت غايتها اليوم فمن يتابع المشهد الاقتصادي سيتضح له حالة الضبابية لكلّ الدول التي اتبعت وصفات هذه المؤسسات فالبداية لامعة كالارتفاع بالاحتياطيات والنمو الاقتصادي لكن النهاية أكثر من ضبابية الُأثر والتأثير.
أليس من الأحرى أن تجمل اليوم أميركا اقتصادها الغارق في الديون وأن تحسّن من مؤشرات الدين لديها ومن ميزانها التجاري الذي يخسر مقابل الصين المليارات سنوياً رغم ما قام به الرئيس الأميركي دونالد ترامب من إجراءات حماية للصناعة والمنتجات الأميركية مقابل نظيرتها الصينية، وما قامت به ضدّ شركة الاتصالات الصينية «هواوي» استباقاً لطرح الجيل الخامس من الانترنت والذي سيؤثر بعالم الأعمال كثيراً، أليس من المفترض أن يكون التصنيف الائتماني للولايات المتحدة أقلّ بكثير مما هو عليه الحال اليوم؟ أم أنّ الولايات المتحدة تسعى لتحقيق صدمة نيكسون جديدة من خلال تخليها لاحقاً عن الدولار والانتقال إلى العملات الكترونية التي يتمّ التحضير لها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.