هل تتنازل الطبقة السياسية عن مصالحها حبياً؟
د. وفيق إبراهيم
تشهد صفحات التاريخ على أنّ الطبقات السياسية لا تسقط حبّياً، ولا تنهار إلا بإسقاط مؤسّسات. هذا ما حدث في مجمل الثورات في العالم منذ تشكل الدول السياسية بمعاهدة وستفاليا في القرن السابع عشر. وقد تتغيّر أنظمة بانتخابات شعبية وهذا نادر وغير شائع، لكن ما تفعله الانتخابات عادة، أنها تفسح الطريق للحزب المنتصر أن يسيطر على النظام نفسه، مقابل تراجع الحزب الخاسر.
لكن ما يحدث في لبنان هو حراك شعبي له مميّزاته اللبنانية الفريدة، وأوّلها انه تعبير صادق عن غضب شعبي على طبقة سياسية ابتلعت الإمكانات الاقتصادية لبلادها، حاضراً وأيضاً مستقبلاً، لأنّ لبنان واقع في دائرة ديون فاقت 120 مليار دولار ولديه موازنة لا ترتفع عن 17 ملياراً سنوياً، ما يوحي بالانسداد الرهيب الذي أنتج بطالة وتضخماً مع غياب البنى التحتية والخدمات الأساسية، وكلّ شيء تقريباً وسط فساد متصاعد يشمل كامل قوى الطبقة السياسية.
أما الميزة الثانية للحراك فتتعلق باختراقه من قبل أحزاب هي الأكثر فساداً في الدولة اللبنانية، نجحت باستغلاله في الهجوم على حزب الله والرئيس ميشال عون وصهره الوزير جبران باسيل.
لجهة الميزة الثالثة، فتتعلق بإمساك حزب المستقبل بهذا الحراك في جناحيه الطرابلسي والصيداوي، حيث تعالت الأصوات فيهما تأييداً لرئيس الحكومة سعد الحريري، علماً أنّ الشيخ سعد من الحريرية السياسية التي يعتبرها أهل العلم الى جانب تحالفاتها في القوى الطائفية الأخرى والمصارف، أهمّ أسباب الفساد السياسي الذي أفقر لبنان ودفعه الى الإفلاس والانهيار.
هناك ميزة رابعة وهي قيادة هذا الحراك الحقيقية تختبئ في العتمة من قصد وعمد، حتى لا تجد نفسها مضطرة الى التفاوض مع الدولة، بما يكشف أنّ أهدافها ليست مجرد تحقيق مطالب بقدر عزمها على إثارة فوضى دائمة، لا تصل إلى حدود الانهيار المطلق وتحول دون العودة الى الاستقرار.
هناك دلائل على الوجهة التدميرية لقيادات الحراك. فالوثيقة التي أعلن عنها الحريري قبل استقالته تضمّنت البنية المادية لثورة فعلية ينقصها الأساس الفكري، فلو ذهبت قيادات الحراك نحو رعاية تطبيقها بين حكومة الحريري ومجلس النواب لبدأت بثورة فعلية ليس ضرورياً أن تكون دموية، ولكان بإمكانها أن تقنع الناس بإنها أنجزت شيئاً لهم ما يسمح لها بالعودة للضغط باتجاه قانون انتخابات جديد على أساس الدائرة الواحدة، الى جانب مجلس شيوخ يرعى الوجود التاريخي للطوائف.
أما من دون تحقيق مطالب فعلية والاكتفاء بالهتافات والصياح فإنّ أيّ قانون انتخابات جديد حتى لو كان على أساس الدائرة الوطنية الواحدة، فإنّ اتفاق القوى السياسية لهذه الطبقة الموجودة قادر على كسبها حتى بإمكانات ضعيفة من طريق إثارة الخلافات المذهبية والطائفية والتحشيد وقوة العنصر المالي والإعلام والفئات الكهنوتية.
هناك ميزة خامسة وهي أنّ هذا الحراك لم ينتبه حتى الآن الى وجود قوى سياسية لديها رصيد شعبي كبير لم تستعمله حتى الآن، لأنه من المطالب الفعلية للناس، ولم يجد هذا الحراك حتى الآن طريقه للتعامل مع حراك مخترق من فئات إقطاعية وسفارات وقوى طوائف فاسدة تاريخياً ومنذ تأسيس لبنان لذلك لم يشجع جماهيره للاشتراك في التظاهرات خشية الانزلاق نحو صراعات جانبية قد تؤدّي إلى تدمير آمال اللبنانيين، وهو الحريص عليها، بشدة، وبما يعادل إيمانه بتحرير لبنان من المحتلّ الإسرائيلي والإرهاب والتكفيري فكيف يمكن لحزب الله الانخراط في حراك كهذا لا يتورّع أحد قادته الأساسيين الوزير السابق نحاس في اتهام المقاومة وأهل الجنوب بأنهم ليسوا مقاومة فعلية وانّ حزب الله «أداة إيرانية»، علماً أنّ النحاس منتحل صفة يساري، وجرى تعيينه وزيراً من حصة التيار الوطني الحر.
لذلك ومن موقع الحرص على وطنية هذا الحراك ووضعه في سياقه الصحيح لجهة المطالب الشعبية، فإنّ عليه تنظيف ما اعترى مساره من قوى طائفية عفنة أساءت لشرعيته، وقيادات تدّعي اليسارية وهي في قلب العفونة الطائفية والجهل.
لذلك ومن الخندق الواحد مع الحراك، فإنّ عليه إلغاء كلمة «ثورة» التي يعمّمها فتثير سخرية السامعين، والاكتفاء باستعمال تعبير انتفاضة شعبية تعمل على التحوّل الى ثورة بالإنجازات وليس بالخطابات الرنانة. فالسنيورة ودرباس ضليعان باللغة، لكنهما من أفسد الفاسدين في لبنان التاريخي ويؤيدان الحراك لغوياً للاختباء من ضغوطه.
إنّ الاستمرار بالتظاهر ضرورة لإنجاح الانتفاضة وحق مشروع في حالات سرقة الدولة لحقوق الناس، لكن محاصرة شركة الكهرباء لا يؤدّي إلى تحقيق مطالب الناس بقدر ما تؤدّي الى قطع ساعات الكهرباء القليلة التي تزوّدهم بها الدولة وتجبي أثمانها مضاعفة.
الحراك إلى أين؟ يبدو أنّ عليه وضع خطة عمل تحاصر منازل الفاسدين ولا تقيّد حركة الناس في تنقلاتهم، وقد تكون هذه الحركة أفضل طريقة ليأس هذه الطبقة السياسية من تحديد ولاياتها على الدولة، فتنكسر وتتنازل وقد يركن الكثير منهم الى الفرار.
لكن أملاكهم باقية في لبنان وودائعهم في مصارف الخارج، تبقى رهن طلب رسمي لبناني باستردادها.
فهل يحمي أهل الحراك الحقيقيون مسيرتهم من العبث الداخلي والتخطيط الأميركي ـ السعودي ـ الإماراتي؟
هذا هو المتوقع، لكنه يحتاج الى مناعة تشلّ الطائفية والمذهبية وقوة الدولار الأميركي وأحلام جنبلاط بالتحديد لزعامة بيت لقرون عدة إضافية، وأساطير جعجع والكتائب بالهيمنة على الشارع المسيحي، فهل هذا ممكن…؟