ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

الأمين جبران جريج كما عرفته

الأمين عبدالله قبرصي

الأمين جبران جريج هو من بين الأُمناء الذين عرفتهم جيدًا منذُ أن تولّى مسؤولية منفذ عام بيروت في أواخر خمسينات القرن الماضي وبقيتُ على علاقة ود معه إلى أن وافته المنيّة. عرفتُ أيضًا الفاضلة عقيلته الرفيقة الراحلة ماري بربر 1 ، كما أولاده: وسيم وإيمان وهَني، وجميعهم احتلوا لديَّ حضورًا حلوًا، ما زالَ مُستمرًّا.

عنهُ، وعن الرفيقة أُم وسيم يَصُح أن أكتب وآمل أن أتمكن من ذلك في وقت غير بعيد.

في الجزء الثالث من مؤلّفهُ «عبدالله قبرصي يتذكر»، يتحدّث الأمين عبدالله عن الأمين جبران جريج الذي رافقهُ جيدًا وطويلًا، وكان «التوأم» في تولّي المسؤوليات الحزبية وفي النضال المرير والتفاني المُستمر في سبيل نُصرةِ حزبِنا.

من أجل تعريف الأجيال الجديدة على أحد المُناضلين المُميزين من حزبِهم، ننقل أهم ما جاءَ في كلمة الأمين عبدالله قبرصي.

ل.ن.

أنا وجبران:

من هو جبران هذا!؟

قد يتصوّر البعض أنّهُ جبران خليل جبران، والحقيقة إنّهُ الأمين في الحزب السوري القومي الاجتماعي جبران جريج.

وَلَدَ في «مونتيفيدايو- الأورغواي» سنة 1912 على ذمته، وترعرع فيها إلى أن بلغَ الثانية عشرة من عمره، ثُمَّ جاءَ هو ووالدته إلى لبنان، إلى بيترومين الكورة، ضيعة جدتي وضيعتي الثانية، جدتي كانت من عائلة شيخاني المشتقة من شيخان، القرية الصغيرة القابعة في قرنة جبيل، قرنة الروم.

تعارفنا باكرًا، وكانت لنا جولات مع عزيز الحاج وسليم الحاج وعبدالله الحاج، وعبدالله حريكي وجبرائيل فيّاض، ثُمَّ مع الأرشيدياكون ميخائيل الحاج الذي كانَ يدرس اللاهوت والفلسفة في «أثينا»، ثُمَّ في «السوربون» في باريس حيث توفيَّ في عزّ شبابه.

عندما كنت طفلًا صغيرًا، كانت جدتي تأخذني إلى بيت أخيها يوسف الشيخاني في بترومين، وكانت ابنة أخيها مَسرّة تحملني وتدغدغني فأنام- أنا ابن الأربع أو الخمس سنوات- في حضنها كأنّي أنام في حضن أُمي، ما كان ينقصني لكي أكون طفلًا سليم البنية العقلية والجسدية إلا أن أجد أُمًا، كانت خالتي مَسرّة أُمًا ثانية لي… لا يمكن أن أنسى حنانها فقد كان غذاءًا عاطفيًا وإن مستعارًا لطفولتي اليتيمة، أضف إلى ذلك، ما أحاطني به الخال جرجس عندما عاد من مهجره، وفي شبابي أيضًا كنت أعلم أوجيني الحاج والتي أصبحت بدورها الآن جدّة، كنت أعلمها بانتظام اللغة الفرنسية واللغة العربية، فأحضر من دده صباحًا لأعود مساء تحت جنح الظلام، الأمر الذي شدّد من عزيمتي على احتمال المخاوف من الجنيات اللواتي كان أهل ضيعتي يحدثونني عنهن وقد أخذن لهن مقرًّا بين بيترومين ودده في محلة العرتوق القصة من الروائي الشهير إلياس الديري، ابن بنت عمي جوزفين قبرصي، كتب عن ذئب العرتوق، لو كنت مثله روائيًا لكتبت بدوري عن جنيات العرتوق! ، وفي البدء كنت أحس وأنا أجتاز الطريق ليلًا أنّهن سيقفزنَ بشكل بسة أو أرنبة، على كتفي، أو يطلعن في وجهي كلبًا.. على التكرار تعلمت الشجاعة فقد مررت ليالي إثرَ ليالي، ولم تقفز في وجهي ولا جنية واحدة.

جرجس الحاج مختار الضيعة وأولاده عزيز وسليم وعبدالله وجبران جريج واسكندر ضاهر وشفيق قطريب وأمين اللقيس وسمعان وأنور قطريب وجبرائيل فياض وعبدالله حريكي والأرشيدياكون ميخائيل الحاج بصورة خاصة أسماء عزيزة عليَّ، لأنّي تدرجت معها على سلالم الحياة، على علاقات الصداقة ومعسول طعمها ورقيق حواسها، كما أن صباي لم يعد يتيمًا محرومًا، فالصداقة بما تنطوي عليه من ود وتعاون، تستأصل اليتم من جذوره، دون أن تقوى على محو آثاره الدفينة.

كل هذه الأسماء العزيزة، قامت بيتي وبينها مسافات بعد تطوري الجسدي والنفسي رغم أنّي إشبين جبرائيل فياض في عرسه، ورغم أنّي كنتُ مُرشحًا أن أكون عرّاب أولاد سليم الحاج نزيه ونبيه- وهما الآن بمثابة أولادي- إلّا واحدًا من هذه الأسماء هو جبران جريج فقد بقي أقرب الناس إليَّ لقد ترافقنا وكان الزمن يشد بيننا الأواصر عِوضًا عن أن تتراخى أو تنكمش، عشنا معًا في بيترومين وفي دِدّه.

أحببنا معًا أميرتيّ خيالنا وهُما أُختان: و.م. و ل. م. حُبًّا أفلاطونيًا خياليًا إلى أن دخلنا الحزب السوري القومي الواحد بعد الآخر ثُمَّ تزوجت أنا جورجيت نخول بربر، فيما تزوّج ابنة عمها ماري يوسف بربر ولو بعدَ سنوات… لقد كان قدرنا أن نكون رفيقيّ صِبا… ثُمَّ رفيقيّ عُمر، ثُمَّ رفيقيّ عقيدة وجهاد… لله، كم يوحي إليّ اسم جبران جريج من ذكريات أخّاذة- من ذكريات عذبة وأحيانًا مأساوية!.

صحيح أنّنا فيما بعد وفي غمار نضالنا المستميت الذي لا يزال مستمرًا، شربنا معًا كاسات القهر والقلق والظلام والحرمان والملاحقات والسجون والموت الرمزي، إلّا أننا شربنا معًا في مطلع حياتنا كاسات الود الصادق، والمحبة الصافية، والرفقة الوفية… شربنا كاسات الصبا في حلاوتها البريئة، ومطامحها البيضاء، ومذاقها الأطيب… نمت إخوّتنا على المصارحة والتفاهم… ولا تزال…

كان يأتي إليّ أو آتي إليه… العرزال عندهم والعرزال عندي جاهزان.

جبران جريج لم يدخل مدرسة الفرير، أخوه إبراهيم في الولايات المتحدة «فلِنت- ميشغن» كان ينفق على تعليمه، كما كانت لوالده أملاك واسعة وأرادَ أن تكون ثقافته إنكليزية- أميركية، لذلكَ التحقَ بمدرسة الأميركان في القِبّة- طرابلس وكان يقيم في نطاقها، بواسطته تعرّفت إلى الأستاذ الشاعر جورج نخول والأستاذ قيصر جحا، وإلى الفرق بين النهج الأميركي والنهج الفرنسي الإكليركي في التربية والتعليم، الثاني يضيق على الطالب ويحشوه بالعلوم النظرية والأفكار الجامدة الأُحادية البعد، ذات الطابع الديني الإيماني، والأوّل يُفسح لهُ بأن يوسّع آفاقه وأن يبني شخصيته متحررًا من كل الكوابيس والقيود واضعًا أمامه العلوم النظرية التطبيقية، تاركًا له حرية الاختيار بين تعدّد الخيارات فيما كان النهج الفرنسي في مدرسة الفرير يجبرك على نمط واحد لا خيار لك في سواه، ثُمَّ يحشو رأسك حشوًا بالريضيات والعلوم الدينية!.

كان جبران رفيقي أكثر ما يكون رفيقًا في أيّام الصيف، نقصد مار سمعان في فيع معًا، نبحث عن الحفلات المدرسية أو التمثيليات، وكانت شائعة في الكورة صيفًا، ونقصدها أحيانًا سيرًا على الأقدام وأحيانًا على الخيل وأحيانًا على الحمير… كانت عربية جبران ركيكة لأنّهُ ما بدأَ يتعلمها إلّا بعد عودته من مونتيفيدايو، لذلك كنت أنا أُنظّم الشعر وأفرض نفسي على المنابر. كانت خصلة من شعري وأنا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري قد ابيضت، فألقيت في بطرام أو بشمزين أو عابا أو برصا، لستُ أذكر بالضبط أين، قصيدة أذكر منها بيتًا واحدًا:

يا كورتي عبث المشيب بلمتي

برباك والشطآن والوديان!

يا لقصائد الصِبا كم كانت فارغة ومضحكة!

من أهم ذكرياتي عن جبران في مطلع تعارفنا، الحرب التي أعلنتها ضد والده وأهل بيترومين بصورة عامة من أجل التعليم، كان الأهل والعَمْ أبو جبران في طليعتهم يعتبرون العلم مصدرًا للفُقرِ والتخلُّف في الحياة ويعتبرون التجارة أو العناية بالأملاك أو أيّة مهنة أُخرى مصدر الجاه والثراء.

كان أبو جبران يسألني مُستهزئًا: أنتم «الأستاذة» ماذا تربحون من الأستذة؟..

لولا أم جبران وباعها الطويلة، ولولا إبراهيم في ميشغن، كانَ جبران جريج غير جبران الحالي… كان أبوه يريده كأخيه حنّا ملاكًا… لا مُعلمًا.

من أحلى الذكريات وأطراها على القلب، مطامحنا الصبيانية أنا وجبران، كان يسألني ماذا تطمح أن تكون فقلت: رئيسًا للجمهورية، وماذا ستكون وظيفتي؟ قُلت: أُعينك أمين سرّي.

وصدف أن انتخبت سنة 1958 من جديد رئيسًا للمجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وانتخب المجلس أمين سرّه الأمين جبران جريج… فقلتُ لهُ: ها تحقّقت النبوئة.

اقترنَ الأمين عبدالله قبرصي من الفاضلة الرفيقة جورجيت بربر، واقترنَ الأمين جبران جريج من الرفيقة ماري بربر التي كانت بالنسبةِ لي بمثابةِ الاخت، وعرفتُ أيضًا شقيقها الرفيق الدكتور حسيب بربر، الرفيق يوسف وابنة اختها الرفيقة محاسن صعب التي اقترنت لاحقًا من المربي والاديب الرفيق نَبوغ نصر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى