حرب الإمبرياليّة ضدّ الدول المستقلّة
د. إبراهيم علوش
الإمبرياليّة مصطلح يشيع استخدامه في الأدبيات السياسية، لكنه ليس مجرّد رديف لتعبير «الاستعمار» كما توحي بعض الكتابات. فالاستعمار، بمعنى احتلال أراضي الغير وإخضاع الشعوب ونهب الثروات، أقدم من الإمبريالية بكثير. أما الإمبريالية فهي أوسع، وأحدث عهداً، وليست مجرد مشروع تأسيس إمبراطورية عالمية كتلك التي أسسها الرومان مثلاً. فالإمبريالية منظومة من علاقات الهيمنة الدولية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية، لا مجرد ظاهرة عسكرية.
نشأت الإمبريالية كمنظومة عالمية، وكمنهج ورؤيا لإخضاع كوكب الأرض، من واقع تطوّر النظام الرأسمالي في أوروبا الغربية أولاً. فالإمبريالية ليست مجرد استعمار مباشر، بل قد تترك السيطرة العسكرية المباشرة لوكلاء لها في البلدان المفتوحة ما داموا قادرين على إبقاء تلك البلدان ضمن منظومة الهيمنة الإمبريالية، أي كمصدر للمواد الخام، واليد العاملة الرخيصة، وكأسواق وميادين لاستثمارات الشركات الرأسمالية العالمية، والأهم بقاؤها سياسياً وعسكرياً جزءاً مضموناً من الحلف ضد أيّ دول أو قوى تخرج على تلك المنظومة الإمبريالية.
بعدما نشأت الاحتكارات الكبرى والشركات متعدية الحدود في الدول الرأسمالية المتقدمة، وبات الكوكب بأسره ملعبها، وبعدما بات تصدير رأس المال عبر الحدود، وليس تصدير السلع فحسب، ضرورة حيوية لاستمرار النظام الرأسمالي العالمي بأسره وتوسّعه، بغض النظر عن هوية الدولة التي تقود عجلة ذلك النظام، اتخذ الاستعمار شكلاً إمبريالياً. فالحروب والعدوان الخارجي يهدفان هنا إلى إخضاع الدول المستقلة لمنظومة هيمنة عالمية، وليس إلى استعمار عسكري مباشر ودائم بالضرورة. والشركات الأميركية لم تحصل على العقود الأخيرة للنفط العراقي مثلاً، لكن العراق ككيان تمّ تحويله إلى أشلاء دولة يصعب عليها أن تتخذ لنفسها طريقاً مستقلاًّ عن الإمبريالية.
في الحالتين، سواء وقع استعمار مباشر ودائم أو لم يقع، فإن الإمبريالية نفسها في آخر عقدين من القرن العشرين، لكن بعد انهيار دول المنظومة الاشتراكية مطلع التسعينات، تحولت تدريجياً مع تحول النظام الرأسمالي العالمي، من نظام يقوم على رأسماليات مختلفة في الدول القومية المختلفة، إلى رأسمالية واحدة عابرة للحدود همّها تفكيك الدول وإضعافها، وإعادة صوغ العالم من جديد، بناء على شروط هيمنتها الجديدة في ما بات يعرف باسم العولمة.
العولمة هي بالطبع اندماج الاقتصادات الوطنية والمحلية في شبكة عالمية واحدة، تسيّرها في النهاية مصلحة الرأسمالية العالمية كطبقة وكنظام. المهم، صار العدو الرئيسي لتلك العولمة كل قلعة مستعصية، وكل حركة، وكل حالة سياسية تحاول أن تخط لنفسها طريقاً مستقلاً وأن تنأى بنفسها عن المنظومة الإمبريالية العالمية. ولنلاحظ هنا أن حرب الإمبريالية، دوماً تحت يافطة «الديموقراطية» و«حقوق الإنسان»، هي ضد مفهوم «الاستقلال» و«السيادة»، وأي مشروع للتطور المستقل، وليس ضد الأديان أو الحركات العمالية في الدول الإمبريالية نفسها، أو ضد أي مشروع إصلاحي محلي، أو ضد أي شيء من هذا القبيل ما دام لا يقف عائقاً في وجه الاندماج «الديموقراطي» في النظام الرأسمالي العالمي.
تظهر النزعة الاستقلالية في قوالب مختلفة، مقصودة أو غير مقصودة، ومن منطلقات عقائدية مختلفة، أو من منطلقات براغماتية حتى، فقد تتخذ شكلاً إسلامياً إو قومياً أو يسارياً… وليس المهم الشكل هنا، أو كم يتفق المرء أو يختلف مع مجمل رؤى ومواقف وممارسات هذه القوة الاستقلالية أو تلك. المهم فحسب هو كيف يلخص موقف الإمبريالية العالمية من مجموع تلك الحالات الاستقلالية التناقض الرئيسي في عالمنا المعاصر اليوم بين الإمبريالية من ناحية والحركات والدول النائية بنفسها عنها من ناحية أخرى، وهذا هو التناقض الأساسي الذي يتبع له كل تناقض آخر.
في المقابل، لا تواجه الإمبريالية مشكلة في تقديم نفسها قوة مدافعة عن الإسلام والمسلمين لتدمير يوغوسلافيا السابقة، وقبل ذلك في خضم الحرب الباردة في أفغانستان وغيرها، ومن ثم أن تعبئ الرأي العام ضد الحركات الإسلامية المناهضة للهيمنة الإمبريالية تحت عنوان «الحرب على الإرهاب»، ولا تواجه الإمبريالية مشكلة في التعاون مع يسار يركز على قضايا مطلبية وإصلاحية أساساً ويهمش التناقض الرئيسي مع الإمبريالية والصهيونية، فالأساس هنا كان ويبقى مصلحة الإمبريالية الراهنة في الزمان والمكان المحددين.
أما من جهة الشعوب الساعية إلى التحرّر وإلى خط طريقها الخاص نحو التنمية والتطور المستقل، فإن العداء للإمبريالية يجب أن يبقى المنطلق الرئيسي لرؤيتها للعالم المعاصر. ولنلاحظ مثلاً أن مفهوم «الاستقلال» لا يعني بالضرورة أن سلوكيات الحركات والقوى المستقلة ستكون دوماً مبدئية وغير مشوبة بأي خلل، ولا يعني أنها لن تدخل البتة في أي مساومات انتهازية، أو حتى قذرة، مع الإمبريالية في أي مفصل من المفاصل… بل يعني الاستقلال الإرادة فحسب والقدرة على انتهاج طريق مخالف للتبعية للإمبريالية عندما ترى ذلك مناسباً. وبمقدار ما تنتشر هذه القابلية الاستقلالية للخروج على التبعية تضعف المنظومة الإمبريالية، وبقدر ما تنجح الإمبريالية بشل تلك القدرة وتدميرها، تقوى المنظومة الإمبريالية.
ولا معنى لتغيير أو «ثورة» تقود إلى المزيد من التبعية للإمبريالية أو لحلف الناتو…
والغريب أن اللجوء إلى السلاح لم يتم إلا في حالة الدول العربية ذات النزعة المستقلة، مع أن قتل المتظاهرين بالمئات بدأ على يد مبارك وبن علي، ولم يؤدّ ذلك إلى اللجوء للسلاح! ولا يعني ذلك أبداً أن الدول العربية ذات النزعة المستقلة لا يحق للمواطن فيها أن يطالب بحقوقه أو حتى أن يعارض، أو أن يناهض الفساد والاستبداد، ما دام ذلك غير مرتبط بأجندة خارجية أو مشروع تفكيك، ولكن عندما تحظى أي حركة أو شخصية معارضة في دول ذات نزعة مستقلة بالدعم الإمبريالي المكشوف، فإن ذلك يفترض أن يدفعنا إلى طرح الكثير من التساؤلات، خاصة عندما يقترن بالدعم الإمبريالي العسكري المباشر، المترافق مع حملة في وسائل الإعلام الإمبريالية والتابعة لـ»تغيير النظام».