لماذا إصرار الحريري على حكومة «التكنوقراط»؟
محمد حمية
يُصرّ الرئيس سعد الحريري على موقفه المتمسّك بحكومة مؤلفة من وزراء اختصاصيين يترأسها هو بعيدة عن الأحزاب السياسية الممثلة في المجلس النيابي.
قد يبدو موقف الحريري مبرراً لكون لديه تجربة لم تكن ناجحة في حكومتي العهد الأولى والثانية، لكن التقاء «الشيخ» ورئيس القوات سمير جعجع والنائب السابق وليد جنبلاط وبعض مجموعات الحراك على الهدف نفسه، يُعزز الاعتقاد بأن الأمر أبعد من ذلك، فلماذا الإصرار على حكومة «التكنوقراط» رغم إدراك مؤيديها بأنها لا تحظى بموافقة الأغلبية النيابية؟ فهل لذلك أسباب خارجية وأميركية تحديداً؟
لم يكن مصطلح «تكنوقراط» منتَجاً وطنياً، بل هو ترجمة عملية لتصريحات وشروط المسؤولين الأميركيين الذين زاروا لبنان في النصف الأول من هذا العام، لا سيما وزير الخارجية مايك بومبيو في 22 آذار الماضي، الذي أبلغ حلفاءه في لبنان القوات والاشتراكي والحريري تحديداً بأن الحكومة لا يمكن أن تستمرّ في ظل وجود حزب الله فيها. وهنا بومبيو لا يشير إلى حجم وزراء الحزب بقدر ما يؤشر الى حجم نفوذه الذي يشكّله مع حلفائه في حركة أمل والتيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية والأحزاب الحليفة والسنة المستقلين. وهذا ما أعاد التأكيد عليه بومبيو للحريري خلال لقائهما الشهير في مزرعة «الشيخ» الأميركية.
ويعتبر الأميركيون، بحسب مصادر مطلعة على السياسة الأميركية في المنطقة، أن وجود حزب الله الفاعل في الحكومة يجعله متحكماً بقرار الدولة اللبنانية في القضايا الإقليمية كملف النازحين وسلاح المقاومة الذي يهدّد الأمن الإسرائيلي وملف النفط والغاز في البحر المتوسط وبالتالي الخطة الأميركية هي تقليص قدرة الحزب على التحكم في القرار الحكومي وإعادة الانقسام اللبناني على الملفات الإقليمية، لذلك حكومة «التكنوقراط» وصفة إقليمية لحصار الحزب وإرباكه في لبنان وتجميد الانفتاح اللبناني على سورية وإعادة النازحين وإضعاف موقف لبنان الوطني الذي تشكّل مؤخراً بشكل غير مسبوق حول المقاومة وسلاحها وحقها في الدفاع عن الحدود البحريّة والبريّة وثروته النفطية. وبالتالي تصبح المقاومة بلا غطاء سياسي وحكومي يسهل ضربها خارجياً ويصبح لبنان بلا قوة ردع المقاومة مهيئاً لقبول شروط الوساطة الأميركية في ملف ترسيم «الحدود النفطية» وتنفيذ متطلبات الأمن الإسرائيلي وتحديداً القرارين 1559 و1701.
وتشير أوساط مطلعة لـ»البناء» الى أن «واشنطن ترسل رسائل عبر وسطاء الى الرئيسين عون وبري ومنهما الى حزب الله تتضمن مقايضة بين ضبط الشارع وحلفائها من أحزاب 14 آذار وتقديم الدعم المالي للبنان وحصوله على أموال سيدر مقابل شروط أهمها: مشاركة شركات أميركية بالاستثمار في النفط اللبناني أسوة بالشركات الفرنسية والروسية والإيطالية، تنازل لبنان عن جزء من حقه في المنطقة النفطية المتنازع عليها في المياه الإقليمية وتبلغ مساحتها 85 كلم مربع وتحديداً في البلوكين 9 و10، والشرط الثالث التفاوض على الصواريخ الدقيقة التي يملكها حزب الله».
إن عودة الانقسام في البلد على قاعدة فريقي 8 و14 آذار تؤكد أن الخلاف القائم ليس بين شارع وسلطة رغم أحقية المطالب الشعبية، بل خلاف سياسي بين فريقين سياسيين على القضايا الإقليمية والسياسة الخارجية وبعض الصفقات والمشاريع الداخلية الكبرى كالنفط والخصخصة والكهرباء والنفايات وغيرها وليس على العناوين المعيشية المطلبية كما تدّعي بعض أحزاب 14 آذار التي تستغلّ «مشروعية الحراك» لتحقيق أهدافها.
فالمنطق الداعي لحكومة «تكنوقراط» ليس مقنعاً بكافة المعايير، بل هو وسيلة تفاوضية لإضاعة الوقت وفقاً للمخطط الأميركي المرسوم لإيقاع لبنان في الفراغ والفوضى، ويظهر في طرح «التكنوقراط» تناقض واضح في موقف الحريري، فيقول إنه مع حكومة يريدها «الشارع» لكنه يتجاهل أن «الشارع» قال كلمته «كلن يعني كلن»، علماً أن الشارع لا يشمل كل اللبنانيين بل قسماً متواضعاً منهم وأعداد الساحات تبين ذلك نسبة الى عدد سكان لبنان، وبالتالي معادلة «الشارع» تشمل الحريري أيضاً فلماذا يريد العودة الى رئاسة الحكومة ومشترطاً «التكنوقراط»؟ ولماذا يفترض أنه مقبول من هذا «الشارع»؟
عندما يُسأل الحريري خلال جولات المشاورات مع رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي وحزب الله عن رأيه بإعادة تسميته أو مَن يمثله يجيب بأنه لن يعطي إجابة طالما لم تبدأ الاستشارات النيابية ما يعني أنه يعترف بنتيجة الاستشارات التي تستند الى رأي الكتل النيابية وبالتالي المجلس النيابي – فإذا سلّم بأن الكتل هي المقرّرة باختيار الرئيس المكلف، فلماذا يُنكر عليها اختيار أيضاً شكل الحكومة وتوازناتها والوزراء، بحسب التوازنات في المجلس النيابي!
فات منظرو «الحراك» وأحزاب 14 آذار أن الحكومة تحتاج الى تعاون المجلس النيابي لتسيير عملها وتحديداً في القوانين المالية وبالأخص الموازنة التي تُعبر عن السياسة المالية والاقتصادية والاجتماعية للحكومة، وبالتالي إصرارهم على حكومة «تكنوقراط» خالية من دسم الأحزاب والسياسة، يرسمون فشلها قبل ولادتها، فإذا نجح «الحراك» بفرض حكومة «تكنوقراط» بالقوة، فهل يضمن أن لا توصد بوجهها أبواب المجلس حيث الأكثرية الحزبية؟
وبحسب المطلعين على مفاوضات التأليف والتكليف، فإن أصحاب هذه «الوصفة السحرية» يريدون إضعاف قوة المقاومة في الحكومة وانتزاع الغطاء الدولي لها الذي يمثله عون ووزير الخارجية وإلى استبعاد حلفاء المقاومة والاستفراد بعون وتجريده من سلاحه السياسي وزراء «تكتل لبنان القوي» و8 آذار في استعادة لمشهد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بأغلبية 14 آذار في وجه الرئيس إميل لحود. لذلك عون بحسب المصادر سيحتفظ بورقة حق الدعوة الى الاستشارات النيابية حتى النهاية لإبقاء زمام المبادرة بيده، إذ إن التكليف من دون رؤية واضحة عن التأليف ستمنح الحريري أو غيره فرصة مناورة تستمر أشهراً، وبالتالي تصبح المبادرة في يده وليس بيد عون وحلفائه.