بلفور الأميركي
طارق سامي خوري
مُجدّداً يضرب رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب عرض الحائط بكلّ القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين المحتلة وقوانين حقوق الإنسان، فبعد أن دشّن عهده الرئاسي بقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة والاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني على مرتفعات الجولان السوري المحتلّ، مروراً بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أونروا وإغلاق البعثة الدبلوماسية الفلسطينية في واشنطن، أعلن وزير خارجيته مايك بومبيو أنّ إقامة ما أسماه مستوطنات مدنية إسرائيلية في الضفة الغربية لا يتعارض في حدّ ذاته مع القانون الدولي .
وينسف هذا الإعلان سياسة الولايات المتحدة التي اعتمدت على رأي قانوني صادر عن وزارة الخارجية عام 1978 يعتبر أنّ إقامة المستعمرات في الأراضي الفلسطينية يتعارض مع القانون الدولي، كما أنه يُعتبر بمثابة الضوء الأخضر للكيان الصهيوني كي يحقّق ما يسعى إليه بضمّ الضفة الغربية أو أجزاء منها.
أما موقف المجتمع الدولي فقد جاء هزيلاً، كعادته، أمام شرعنة المستعمرات الصهيونية التي أقلّ ما يُقال فيها إنها جريمة حرب، حيث يُطلَق العنان للولايات المتحدة لتمارس البلطجة السياسية والاقتصادية، ومعظم العرب غافلون لا يستفيقون إلا ليتحسّسوا عروشهم العائمة على دماء أشقائهم ثم يعودوا إلى سُباتهم الطويل. وفي أحسن الأحوال قد تستيقظ النخوة العربية على شكل بيان شجب من هنا واستنكار من هناك بتعابير إنشائية مُنمّقة. لذلك ليس مُستغرباً أن لا يكون الموقف العربي على مستوى خطورة المُصاب الجلل وتداعياته، ولكن ماذا سيفعل هؤلاء العرب عندما يستكمل الكيان الصهيوني مساعيه لتحقيق مخطّطاته التوسُّعية لتحقيق أطماعه التاريخية؟ وهل جلبت معاهدات السلام للعرب غير الويل والثبور؟
لقد نصّبت واشنطن نفسها على مدى عقود كـ وسيط للسلام ، وقد ساعدها في ذلك بعض العرب وحتى السلطة الفلسطينية نفسها، ورغم أنني لا أؤمن بما يُسمّى حلّ الدولتين، إلا أنّ تشريع المستعمرات الصهيونية قد دفن هذا الحلّ إلى غير رجعة، وعلى المُنظّرين لهذا الحلّ أن يقتنعوا بأنّ عصابات الاحتلال وداعميها لا تنفع معهم لغة المفاوضات والمعاهدات والتسويات، لذلك يجب أن تبقى علاقتنا بكيان العدو علاقة صراع ومواجهة بالحديد والنار. وكما يقول الزعيم أنطون سعاده إنّ حقّ الصراع هو حقّ التقدّم، فلسنا بمتنازلين عن هذا الحقّ للذين يبشّروننا بالسلام ويهيّئون للحرب .
إنّ سياسة السطو على الأراضي الفلسطينية سبقت قيام كيان الاحتلال الصهيوني بنحو ثلاثة عقود، ويعتبر قانون انتقال الأراضي الذي أصدره المندوب السّامي البريطاني هربرت صموئيل في أيلول 1920 تمهيداً لقانون أملاك الغائبين الذي أقرّه الكنيست الصهيوني عام 1950 وغيره من القوانين مثل قانون أراضي الدولة وقانون التسوية لسرقة الأراضي الفلسطينية بعد طرد أصحابها أو ترحيلهم. وما أن أعطى وزير الخارجية الأميركي شرعية للمستعمرات الصهيونية حتى سارع رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى دعوة بيني غانتس رئيس حزب أبيض أزرق وأفيغدور ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا إلى الانضمام إليه في حكومة وحدة لإبقاء إسرائيل آمنة وضمّ وادي الأردن ، ما يعني أنّ هناك خطة صهيونية لمزيد من التوسُّع في أراضي الضفة الغربية والتخلّص من الفلسطينيين الموجودين فيها، بعد أن قضم الاستيطان ما نسبته 42 في المئة من أراضي الضفة، ولم يبقَ للفلسطينيين سوى حوالى 15 في المئة فقط من مساحة فلسطين التاريخية المقدّرة بنحو 27 ألف كيلومتر مربع.
كلّ هذه الأحداث والتطوّرات كافية لتثبت بالدليل القاطع أنّ درب المفاوضات والتسويات الذي سلكته مصر والأردن ولا تزال تسير فيه السلطة الفلسطينية مع الكيان الصهيوني هو طريق الاستسلام والخنوع ولن يُفضي سوى إلى المزيد من التنازلات والخسائر. وتبقى المقاومة هي السبيل الوحيد والأنجع لصدّ العدوان ومواجهة الأطماع واستعادة الحقوق وما جرى في غزة وسورية خلال الأيام الأخيرة خير دليل على ذلك، حيث يسطر الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية بطولات وانتصارات لصدّ الاعتداءات ووضع حدّ للعنجهية الصهيونية، أما حمامة السلام الأميركية التي تحاول أن تستكمل اليوم إنجاز وعد بلفور المشؤوم، فلم تكن سوى غراب يرشد إلى الخراب، والبصمات الأميركية واضحة جليّة في ما يجري اليوم في طهران وبغداد وبيروت، وكما يقول الشاعر: إذا كان الغراب دليل قوم/ فلا فلحوا ولا فلح الغراب .
عضو مجلس النواب الأردني.