إلى الجيل Z: الشّعارات آفة الثّورات، فانتبهوا!

لا بدّ من التوقّف مليًّا أمام «ثورة طلاب لبنان»، والتّدقيق بكلّ تفاصيلها، من نبرة أصواتهم، إلى بريق عيونهم، وملامح وجوههم، فضلاً عن هتافاتهم وشعاراتهم.

فهي بلا شكّ، ظاهرة تستحقّ التّأمّل والتّمعّن، بعيدًا عن التّصنيفات والتّوصيفات السّطحيّة، وبعيدًا أيضًا، وبغضّ النّظر عن كونهم مدفوعين من غيرهم، أو متفاعلين مع الحدث الوطنيّ من تلقاء أنفسهم، هي قراءة تتخطّى كلّ هذه التّعقيدات المتشابكة إلى تحليل واقعيّ لطبيعة هذا الجيل، وثقافتهم وتوجّهاتهم واهتماماتهم، وبالتّالي، إلى الوظيفة الحاليّة الّتي يؤدّونها، والدّور المستقبليّ المتوقّع منهم.

نحن أمام جيل «Z» الجديد بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، جيل بداية التّسعينيات إلى يومنا هذا، حسب التّصنيف العالمي.

زمنيًّا، يفصل هذا الجيل، جيلان أو ثلاثة عن جيل الطّبقة السّياسيّة الحاكمة، والّتي ينعتها هؤلاء بالتّخلّف والرّجعيّة، وثقافيًّا، تفصل بينهم مسافات بعيدة فرضتها سرعة التّطوّر العلمي والتّقني!

نحن أمام جيل الشّاشات البرّاقة، والتّقنيّات الرّقميّة السّريعة جيل الانتقال، بكبسة زرّ، من عالم إلى عالم..

جيل لا تعنيه الخطابات الانفعاليّة، ولا التّعابير الجماليّة، لأنّه ببساطة، مبرمج كأدوات زمانه، على العبارات المختصرة، ذات النّتائج السّريعة والمباشرة، ينعكس ذلك في شعاراتهم وهتافاتهم المقتضبة، مقارنةً «بالرّديّات والأهازيج» الّتي كان يردّدها شباب السّتينيات والسّبعينيات في ثوراتهم واحتجاجاتهم.

وهو بالتّأكيد، ليس جيلاً سطحيًّا كما يحلو للبعض نعته، ومن يظنّ أن وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتطبيقات الهواتف الذّكيّة، والألعاب الالكترونيّة أنتجت جيلاً عبثيًّا، غير مكترث بالقضايا الكبرى، فهو واهم، وغير مطّلع على الدّراسات والأبحاث، الّتي انكبّت عليها كبريات الجامعات ومراكز الدّراسات في العالم، فقد ذكرت شركة Google في تقريرها «الجيل الرقمي العربي» أنّه يشكّل 40 من سكّان الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهذه النّسبة تدلّ على مدى تأثير هؤلاء وقدرتهم على صنع الفوارق الاجتماعيّة والسّياسيّة، كما ورد في تقرير اليونيسيف عام 2017 «الأطفال في عالم رقمي»، أنّه «يمكن أن تكون التّقنيّة الرقميّة العامل الكبير الذي سيغيّر قواعد اللّعبة في عصرنا الحالي»!.

هم إذن، جيل له ثقافته وأسلوبه وطريقته في التّعبير عن أفكاره وتطلّعاته، وليس جيلاً فارغًا كما يتصوّر كثيرون، والمشكلة الحقيقيّة تكمن في الهوّة الواسعة بين هذا الجيل وبين مَن سبقه، ويكفي للدّلالة على ذلك أن ترى الغربة الّتي يعيشها الأبناء عن آبائهم، صحيح أنّهم يعيشون تحت سقف واحد، لكن، كلاً منهم يعيش في عالم شبه منفصل عن الآخر. وكم يعاني الآباء من عدم القدرة على السّيطرة والتّحكم بأبنائهم، وعدم القدرة على تأطيرهم وقولبتهم، وذلك ليس إلا نتيجة لهذه الفروق الكبيرة بين الجيلين. ومَن يعمل في مجال التّربية والتّعليم يدرك حجم المعاناة الّتي تعيشها إدارات المدارس والثّانويّات في ضبط وتوجيه وتحفيز الطلاب، وحتّى التّلامذة، الّذين يشعرون بقدرتهم على تحديد أولويّاتهم، واستغنائهم عن نصائح ومعلومات معلّميهم ومعلّماتهم، لأنّ «غوغل» في نظرهم مصدر كلّ معلومة مهما كانت صعبة، و»يوتيوب» مرجع كلّ نظريّة جديدة كانت أم قديمة، ومتاحة مجّانًا، بالصّوت والصّورة، ناهيك عن مئات التّطبيقات التّخصّصيّة في كلّ مجال علميّ وأدبيّ وثقافيّ..

لذلك نجد طلاب لبنان يصمّون آذانهم عن كلّ طرح تقدّمه السّلطة، أو الأحزاب الممثّلة فيها، بل يهزأون منها، ويحقّرونها، كأنّهم يخاطبونهم بلغة لا يفهمونها، وذهبوا إلى رفع شعارٍ عالي السّقف «كلن يعني كلن» شعار أقفل عليهم وعلى السّلطة باب الحوار العقلانيّ، وبالتّالي، أقفل أفق الحلول السّياسيّة الممكنة، ونسوا، في غمرة اندفاعهم، أنّ لهذه السّلطة وأحزابها شوارع عريضة، وأنّ الوطن ليس لهم وحدهم، ولا يستطيعون فرض أسلوب يرفضونه هم، وهو إقصاء وتهميش الآخر، لمجرّد الاختلاف معه بمقاربته للأمور.

وهنا لا بدّ من توجيه تحيّة احترام وإكبار إلى هؤلاء الشّباب الواعدين، فالوطن جميل في بريق عيونكم، والسّيادة مصونة في نبرات أصواتكم، والتّنوّع محفوظ في ملامح وجوهكم، ولكن، هل الكلمة لكم؟ وهل المستقبل المنشود آتٍ على مقاس أحلامكم؟ وهل أنتم قادرون على فرض إرادتكم بقوّة اندفاعكم وزخم حماسكم؟

أسئلة كثيرة نضعها برسم وعيكم وانفتاحكم، ونأمل منكم أن تهدّئوا من روع اندفاعكم، وتخفّضوا من سقف توقّعاتكم، كونوا واقعيين، وأنصحكم بأن تعودوا إلى مراجعكم الرّقميّة، وأن تعيدوا قراءة تاريخ بلدكم، وتنظروا كيف كان مصير أقرانكم، وكيف تحوّلت أحلامهم إلى كوابيس، وكيف صاغ السّاسة الإقليميّون والدّوليّون شعاراتهم اتّفاقاتٍ وتسويات، أطاحت بمفهوم الدّولة، وكرّست منظومة طائفيّة مقيتة، ما خرجتم بثورتكم اليوم إلا بسببها! ولأنّنا فخورون بتجربتكم نأمل من السّلطة أن تضع يدها بيدكم، وأن تستوعب غضبكم، وتمنحكم فرصة لتثبتوا جدارتكم وكفاءتكم، ونتمنّى عليكم أن لا تضيّعوا إنجازكم التّاريخيّ، في زواريب السّاحات والشّوارع المتقابلة فلستم وحدكم في هذا البلد المعقّد بتاريخه وتركيبته. لقد أسقطتم الحكومة، وفتحتم كوّة أمل، لجهة إقرار جميع أركان السّلطة، بوجوب وقف الهدر، ومحاربة الفساد، ومحاكمة الفاسدين، وإعادة الأموال المنهوبة، وغيرها من الإنجازات النّوعيّة.

فلتكن هذه الإنجازات النّظريّة، نقطة انطلاق عمليّة، نحو تغيير حقيقيّ، يتراكم مع الوقت، بمشاركة من يمثّلكم في الحكومة العتيدة، لنصل جميعًا، إلى دولة مدنيّة عادلة وقويّة!

حسن الدّر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى