إشكاليّة التكليف والتأليف: إشكاليّة أسماء أو إشكالية برنامج

زياد حافظ

دخلت الانتفاضة الشعبية شهرها الثاني وما زالت الطبقة السياسية تدور في حلقة مفرغة حول التعاطي مع مطالب الشعب اللبناني. فرغم محاولات خطف الانتفاضة لتنفيذ أجندات مشبوهة سياسياً ما زال المنتفضون غير آبهين بتلك المحاولات. لكن ما يتصدّر المشهد السياسي اليوم هو ما فرضته استقالة الحكومة وظروفها وتداعياتها على التسويات السياسية التي قامت قبل الانتخابات النيابية الماضية وتمّ تجديدها. لسنا هنا في إطار مقاربة الأبعاد السياسية لتلك الاستقالة بل للتركيز على ما هو مطلوب الآن. فبينما السجال القائم في الأروقة السياسية وفي الإعلام حول اسم الرئيس للحكومة المقبلة إلاّ أن ما يغيب كلّيا عن البحث هو موضوع تلك الحكومة أي برنامجها السياسي والاقتصادي. ولعلّ الغموض المقصود حول ذلك البرنامج هو ما يؤخّر البتّ في نوعية الحكومة وشخصية مَن يرأسها.

في رأينا فإن برنامج الحكومة المقبلة هو الأساس. التوافق على إقرار برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي هو المطلوب من قبل القوتّين الأساسيتين اللتين تتصدران المشهد السياسي: الانتفاضة الشعبية والطبقة السياسية الحاكمة بكافة مكوّناتها. المشكلة هنا أنه لا يوجد حتى الآن مَن يمثّل الانتفاضة رغم محاولات عدد من الجهات السياسيّة والإعلامية الإيحاء بأنها تقود الانتفاضة وتعبّر عنها. بالمقابل، التناحر بين مكوّنات الطبقة السياسية يحيّد إلى حدّ ما عدم وجود مجموعة أفرزتها الانتفاضة للتحاور مع مكوّنات السلطة. ونقصد هنا بالانتفاضة التي لا تولي الولاء لجهات خارجية أو تابعة لأحزاب بل ذلك الفيض من اللبنانيين العابر للطوائف والمناطق. كما لا يمكن إنكار أن الانتفاضة أعادت إحياء بعض العصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية وجميعها تدّعي أنها تتكلّم باسم الانتفاضة غير أن ما نعرفه من يقين المنتفضين الصافين ليسوا منهم. على كل حال، ليس من الضروري في هذا اللحظة الدخول في لعبة الأرقام والأحجام لمكوّنات الانتفاضة لأننا نعتقد أن عرض برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي يساهم في تصويب نشاط الانتفاضة والحراك السياسي للطبقة السياسية المكوّنة للسلطة.

ملامح البرنامج الحكومي قد تكون وفقاً للأولويات التالية:

أولاً: معالجة الواقع الاقتصادي المأزوم وتداعياته الاجتماعية. وهذه المعالجة تفرض إجراءات فورية في بعض الملفّات كملف الدين العام، والنقص في السيولة، وتأمين المحروقات والمواد الغذائية الأساسية والأدوية.

ثانياً: إيجاد الآليات لملاحقة الفاسدين والمفسدين. من ضمن تلك الآليات خلق هيئة لملاحقة الفاسدين قوامها أعضاء مجلس القضاء الأعلى، رئيس مجلس الشورى، رئيس ديوان المحاسبة، والرؤساء السابقين لتلك المؤسسات القضائية.

ثالثاً: إعداد قانون انتخاب جديد على قاعدة النسبية والدائرة الوحدة أو الكبرى وخارج القيد الطائفي.

رابعاً: حلّ المجلس بعد إقرار قانون الانتخاب الجديد والدعوة لانتخابات نيابية مبكرة.

خامساً: المجلس الجديد يُصدر قانوناً لإنشاء مجلس شيوخ على قاعدة التنوّع الطائفي والمذهبي.

غير أن هذه المعالجات الفورية لن تُعفي الحكومة الجديدة من ضرورة مراجعة الخيارات والسياسات الاقتصادية المتبعة منذ أكثر من ثلاثة عقود وذلك لرسم خيارات وسياسات جديدة تساهم في نقل الواقع الاقتصادي والاجتماعي من حالة مأسوية إلى حالة راحة وبحبوحة. وهذه الخيارات قد تُوجب فرض آليات لتحقيق الرؤى على المدى المتوسط والبعيد وإعداد سياسات تعكسها الموازنات في السنوات المقبلة. هذا يعني أن الحكومة معنية بإيجاد حلول فورية لعدد من الملفّات كما أنها معنية بمراجعة الخيارات والسياسات.

المعالجات الفورية للواقع الاقتصادي معروفة وتمّ شرحها في مقالات سابقة وتتمحور حول إيجاد حلّ تفاوضي لخدمة الدين العام، وإيجاد توازن في الموازنة العامة عبر إيقاف الهدر الذي أصبحت مصادره معروفة للقاصي والداني، وتأمين السيولة لإعادة دفع العجلة الاقتصادية عبر تخفيض الفوائد، وإعادة التوازن في القطاع المصرفي الرسمي والخاص فيما يتعلّق بسياسات إقراض القطاعات المنتجة والكفّ عن تمويل القطاعات الريعيّة. أما السياسات التي يجب اتخاذها فهي في تنويع مصادر التعامل الاقتصادي والمالي. أولاً، هناك التركيز على دعم مقوّمات الاقتصاد الإنتاجي فيما يتعلّق بالزراعة والصناعة والخدمات صاحبة القيمة المضافة وليس الريعيّة والتي تساهم في دفع القطاع الإنتاجي. إن الانتقال من اقتصاد ريعيّ إلى اقتصاد إنتاجي يجب أن يكون محور السياسات وهدفها. ثانياً، التشبيك الاقتصادي مع كل من بلاد الشام وبلاد الرافدين أصبح ضرورة حيويّة وليس ترفاً فكرياً. فكلا البلدين يستطيعان استيعاب الإنتاج اللبناني إضافة إلى ورشة إعادة إعمارهما التي سيستفيد منها لبنان. كذلك الأمر بالنسبة للتعامل مع الصين وروسيا والهند وماليزيا والجمهورية الإسلامية في إيران. ثالثاً، التعامل مع الأطراف التقليدية في الغرب يجب أن يكون على قاعدة الندّية واحترام سيادة لبنان والتسليم بأن الكيان الصهيوني هو عدوّ وجوديّ للبنان فلا داعي للضغط على لبنان لتأمين مصلحة الكيان.

غير أنه في هذا السياق لم نجد في الخطاب السياسي للمنتفضين، ولا عند الذين يدّعون أنهم يتكلمون باسمهم أو يدّعون أنهم جزء من الانتفاضة أي إشارة الى الخيارات السياسية. هناك شعارات مرفوعة ذات أبعاد سياسية تعكس وجهة نظر بعض المنتفضين كإسقاط العهد، أو النيل من المقاومة وقائدها، ولكن لا إشارة إلى ما هو مطلوب من الحكومة المقبلة. بالمناسبة، هناك تناقض في الشعارات المرفوعة. فإذا كان الهدف من الانتفاضة التخلّص من كل الطبقة السياسية فلماذا تنادي بعض الجهات ببعض رموز الطبقة السياسية؟ فهل كلّن يعني كلّن أو بعضهم فقط؟ كما أن إسقاط السلطة أي رئاسة الدولة، والمجلس النيابي، والحكومة يخلق فراغاً قاتلاً. فكيف يمكن تشكيل عندئذ حكومة إنقاذ ؟ لماذا لا يدعون إلى إقامة مجلس تأسيسي يُعيد تكوين السلطة؟ أليس هؤلاء الذين يصفون الانتفاضة بالثورة، فلماذا لا يعرضون خطة إعادة تكوين السلطة وآلياتها؟

من جهة أخرى أصبح الكلام عن حكومة تكنوقراط وكأنه المطلب الذي سيأتي بالحلول. صحيح أن المشكلة الاقتصادية لها طابع تقني، ولكنها في الأساس هي مشكلة خيارات وسياسات، أي مشكلة سياسية. وهذه الخيارات يجب أن تحظى بتأييد سياسي وشعبي وإلا لكانت فقط اجتهادات لتكنوقراطيين غير مسؤولين عن التوجّه السياسي الاقتصادي. ليست مهمتهم تحديد السياسة بل تنفيذها قدر الإمكان. ولكن عن أي سياسة نتكلّم؟ فالسياسة العامة للبلاد منوطة بمجلس الوزراء وفقاً لاتفاق الطائف الذي جسّده الدستور. فحكومة التكنوقراط قد تكون منافية لنص وروح الدستور والطائف. فكيف يمكن أن تواجه تلك الحكومة قضايا سياسية مصيرية ستفرض عليها مواجهتها؟ كيف يمكن مواجهة مسألة ترسيم الحدود البحرية والبرّية؟ هل الإملاء الأميركي الذي لا يرى إلاّ مصلحة الكيان الصهيوني، وهو العدو الوجودي للبنان، قدر على التكنوقراط ؟ كما هناك وزارات سيادية سياسية بامتياز. من هو التكنوقراطي في وزارة الخارجية؟ أليس هو مَن ينفّذ السياسة الخارجية؟ ومَن يرسمها: التكنوقراط؟ من هو التكنوقراطي الذي سيتولّى وزارة الدفاع؟ أليس قرار تسليح الجيش على سبيل المثال قراراً سياسياً بامتياز خاصة لنوعية ومصدر التسليح؟ مَن هو التكنوقراط الذي سيتولّى وزارة الداخلية؟ أليس الأمن الداخلي مبنياً على قرار وتوافق سياسي فمن يحدّده: التكنوقراط؟ لذلك الكلام عن حكومة تكنوقراط يعني إلغاء السياسة عن الحكومة وكأن إدارة البلاد ليست سياسة في الأساس؟ وهل شخص رئيس الحكومة المقبل السياسي الوحيد؟ هل يعني أن السياسة في البلاد أصبحت من صلاحية شخص واحد؟ الإجابة على بعض هذه الأسئلة معقّدة للغاية وتتناول جوهر اتفاق الطائف ولها تداعيات خطيرة أخطر بكثير من الحالة التي وصلت إليها البلاد.

الاتفاق على برنامج الحكومة مسبقاً هو الذي سيحدّد تسمية الرئيس الجديد للحكومة وشكل الحكومة وتكوينها. لكن الخطاب السياسي لا يدور في هذا الإطار مما يثير لنا الشكوك والريبة في ظل الصراع القائم في لبنان والذي يعكس الصراع الدولي والإقليمي بشكل عام وصراعنا مع العدو الصهيوني بشكل خاص. النقطة المفصلية هي هنا. ما هو مسار الحكومة المقبلة من الصراع مع العدو وكيف ستتعامل مع الضغوط الأميركية التي تهدف إلى إعطاء الأولوية للكيان؟ لم تتعظ بعض القوى السياسية من قرار الإدارة الأميركية بالتصديق على ضم الجولان، وعلى عدم اعتبار المستعمرات الصهيونية في الضفة مخالفة للقانون؟ ماذا سيكون موقف الحكومة المقبلة من إملاءات الإدارة حول ترسيم الحدود البرّية والبحرية؟ ماذا سيكون موقف الحكومة إذا اعتبرت الإدارة الأميركية أن مزارع شبعا خاضعة للسيادة الصهيونية؟ شاءت أم أبت، فإن الحكومة المقبلة ستكون في قلب الصراع مع الكيان الصهيوني. فالبوصلة كانت وما زالت مقتضيات الصراع الوجودي. فهل التكنوقراط يستطيعون المواجهة؟

اقتصادي وكاتب سياسي وأمين عام سابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى