ناصيف نصار في إصدارٍ جديد: الديمقراطية هي الاسم الأصح للحكم العادل
د. ربيع الدبس
مغبوطٌ قارئُ ناصيف نصار، فهو يكاد لا يصحو من نشوة فكرية حتى يَصْدعه هذا الفيلسوف بأخرى، كأن الإنتاج الفلسفي لديه ملكة مستطابة لدى القارئ قبل المؤلِّف، فإذا هما يتكاملان في عملية التلقّي والعطاء، من دون أن تُتاح لهما بعد ذلك سانحةُ الافتراق.
تنجلي هذه الخلاصة في منتهى الوضوح لمن يطالع، بجدية، كتاب نصار الأخير «التنبيهات والحقيقة: مقالات إضافية حول الفلسفة والديمقراطية» الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية.
صحيح أن الكتاب الجديد شكّل ثَبْتًا بمداخلات فلسفية ظهرت في صيغة محاضرات حول موضوعات محددة، إلا أن أهميتها تنبع من كونها إضافات معرفية نوعية، دار التفكير فيها كما يقول المؤلف عينه على التذكير بالمبادئ الأساسية العامة للديمقراطية بوصفها الاسم الأصح، حتى إشعار آخر، للسياسة الراشدة والحكم العادل.
ما من شك في أن نصار علامة فلسفية فارقة في الإنتاج الفلسفي العربي منذ نصف قرن أو يزيد. وتأتي في مقدّمة العناصر التي رسمت تلك العلامة الفارقة بصماتُه في تعميق الوعي بالأسباب الّتي تعرقل ما دعاه هو على سبيل التخيّل الحضاري- «النهضة العربية الثانية». وإذا كان نصار قد وضع كتابه النظري الكبير بعنوان «منطق السلطة» ليجعل منه وسيلة منهجية لتحسين أوضاعنا، في سياق مشروع فلسفي، فلأن الكتب الّتي سبقته كانت تمهيدات له، كما أن هذا الكتاب الجديد يشكّل أحدَ التيجان الّتي ترصّع بوارقُها مرجعيته الفلسفية على المدَيَيْن: العربي والأوروبي المعاصريْن.
يعتبر نصار أنّ ما فعله في سياق رحلته الفلسفية المديدة يتجاوز مستوى الطرح الإيديولوجي للمفاهيم والرؤى ومستوى الاختيار بين القطيعة مع التراث وبين الانتظام فيه وتحديثه، وفقاً لتَسَمُّر بعض الدراسين على نظرتهم النمطية إلى نتاجه. فما تقدمه الفلسفة لإصلاح السياسة، كما يؤكد الفيلسوف نصار، بما هي أنظمة ومؤسسات وممارسات تقليدية قائمة بصورة عامة على مبدأ الاستبداد وهو ما بات يُطلق عليه اليوم الانتقال إلى الديمقراطية – يذهب إلى ما هو أبعد مما فعلته إيديولوجية التحرر الوطني والإصلاح السياسي مع الكواكبي وأقرانه واللاحقين 1 . فالّذي يطّلع على كتاب نصار الصادر أولاً عن دار الطليعة عام 1994 ثم عن مركز دراسات الوحدة العربيّة عام 2016 بعنوان «الفكر الواقعي عند ابن خلدون» يستقرئ الاتجاه العريض الذي وضع نصار مشروعَه الفلسفي في إطاره ومفاده أنه يتعيّن على العقل الفلسفي العربي أن يرتفع من الواقعية السوسيولوجية إلى الاعتبار الفلسفيّ للدولة الحديثة حتى ولو أدى ذلك إلى احتواء مفهوم الدولة في نظرية أوسع هي نظرية السلطة.
في مقالة له بعنوان «مدينة الله»، يقول المطران المفكر جورج خضر: «المشكلة أننا لم نمرّ حقيقة بالفكر الديمقراطي لأننا تاريخياً لم نعرف عصر الأنوار الذي أنتج هذا الفكر» 2 .
أما الدكتور نصار، الذي ينعقد معظم الكتاب الذي نحن في صدده عن رؤيته للديمقراطية، فيعتبر أيضاً أن مسألة الانتقال إلى الديمقراطية ليست مجرد تطوّر خارجي نحوها، وإنما هي بالمعنى الاختباري، طور من أطوار التحوّل فيها وبها، أي في تعلّم الديمقراطية وممارستها.
لذلك لن يؤدي تطوّر كهذا إلى استقرار النظام الديمقراطي وترسيخه في الأذهان والتطبيقات إلا بمقدار ما تمنحه الفكرة الديمقراطية من صلابة الدفاع وقوة الاندفاع 3 .
على أن الاهتمام بحقيقة الديمقراطيَّة لا ينفصل عن اهتمامَيْن آخرين هما: الاهتمام بقيمة الحقيقة من جهة، والاهتمام بوضع الحقيقة في المجتمع الديمقراطي من جهة ثانية. فمسألة الحقيقة في المنظور الديمقراطي بالغة الأهمية وهي تشمل ثلاثة مستويات متداخلة هي: حقيقة الديمقراطية وسياسة الحقيقة في الديمقراطية ونظرية الحقيقة بشكل عام. ويستنتج نصار أن سياسة الحقيقة محكومة بلعبة المصالح، وقلما تكون الحقيقة فيها مطلباً قائماً بذاته ولِذاته، الأمر الذي يفتح الباب لعملية خطيرة ينبغي تفكيكها وتداركها، ألا وهي تسييس الحقيقة.
ويلخّص نصار هذه المعادلة الخطيرة بالقول: هكذا تجتمع في سياسة الحقيقة فلسفة السياسة وفلسفة الحقيقة، ولكنْ من دون تأليف بينهما، لأن فيلسوف الحقيقة يرى إلى سياسة الحقيقة وعينُه على المعرفة، وفيلسوف السياسة يرى إلى سياسة الحقيقة وعينُه على المصلحة 4 .
هذه العملية التفكيكيّة لكل من البنْية الديمقراطية وبنْية المصالح المستبدّة أوصلت نصار إلى القول إن النظام الديمقراطي يقتضي، من داخله، قطيعة مع جميع أشكال الاستبداد بالحقيقة وما أكثرها!! فالحكم في النظام الديمقراطي ليس محصَّناً ضد نزعة تطويع الحقيقة وفقاً لما يناسب مصلحة الحاكم وأهدافه أو وفقاً لمصلحة المعارضة وأهدافها، وصولاً إلى الكذب والتضليل. لكن الديمقراطية تبدو، في المنظور التاريخي المقارن، حاضنة لانقلاب كبير في سياسة الحقيقة بالنسبة إلى ما سبقها من عصور الاستبداد بالحقيقة. وأصل هذا «الانقلاب» كامن في التناقض بين مبادئ النظام الديمقراطي ومبادئ النظام الاستبدادي، فركائز النظام الديمقراطي ترجع إلى ثلاث: الحرية الفردية، والمساواة بين المواطنين، والسيادة الشعبية، من دون أن نغفل أن التفسيرات في شأن هذه المبادئ متعدّدة وأحياناً متناقضة.
وإذا كانت الديمقراطية تستبطن احترام الإرادة الشعبية، فإن هذا لا يعني أن إرادة الشعب مطلقة. فالشعب يريد بحسب ما يرى، يقول الفيلسوف نصار. وما يراه الشعب محكوم بجدلية المصلحة والفكر. وما من ريب في أن تفكير الشعب في الديمقراطية يختلف عن تفكير القطيع وعن تفكير القبيلة، لأن مكوّنات الشعب الأولية أفراد عقلاء، أحرار ومتساوون. أما المساواة فهي الحق لجميع الناس في الحرية والكرامة وفي ما يلزم عنها من حقوق وواجبات. لكن نصار يميّز بين الحق في المعرفة من جهة وبين بناء المعرفة وتحصيلها من جهة أخرى. من هنا دعوته إلى مراجعة بعض الشعارات الرائجة وفي مقدمتها شعار «ديمقراطية المعرفة».
أما حصيلة التجربة في الحداثة الديمقراطية فمؤدّاها أن حرية الفكر تشمل ثلاث حريات: حرية السؤال والبحث، وحرية الاعتقاد والرأي، وحرية التعبير والنشر.
إن الديمقراطية، بتعميمها حرية الفكر بين المواطنين، تفتح عصراً جديداً في تاريخ الحقيقة. إلا أن حرية السؤال والبحث هي الأجدر بالاهتمام، لأنها مكمن القوة والجدّة وباعث التنافس والتقدم، ومصدر الشكوك والإشكاليات، وفاتح الآمال والآفاق. ويكثّف نصار مقولة رائعة ذات جذر سقراطي إذْ يقول إن تاريخ الفكر هو تاريخ أسئلته قبل أن يكون تاريخ أجوبته.
بعد ذلك، يؤكد المؤلف على قضيتين: أُولاهما أن ماهية الديمقراطية تقتضي حياد الدولة المبدئي بالنسبة إلى الدين ولا تقتضي حياد المجتمع وأفراده بالنسبة إلى الدين، لأن الدولة ليست المجتمع بكليّته، وما يصحّ على الدولة لا يصحّ بالضرورة على المجتمع وأفراده. وثانيتهما أن الدين الذي لا يقبل مبدأ حياد الدولة في المسألة الدينية لا يمكنه أن يحترم المبادئ التكوينية للديمقراطية. وبعد شرح معمّق للاعتبارات الملازمة يستنتج نصار أن الموقف الطبيعي والمنطقي للدولة من الحقائق اللاهوتية هو موقف الاستقلال والحياد، وترْك المذاهب المتعلّقة بها، في الدين الواحد أو في الأديان المتعارضة، للسلطات المعنية بها. على أن الحياد في هذا السياق لا يعني الخصومة والاستبعاد، كما أنه لا يعني الانحياز والتخالف، ولا يدفع مطلقاً نحو اللامبالاة… فالشعب في الديمقراطية لا ينظر إلى نفسه من خلال الانتماء الديني، بل من خلال وجوده المادي والثقافي المعبَّر عنه بمصطلحيْ الهوية والوطن.
لا تفوت نصاراً، قطْعاً، الإشارةُ إلى أن الديمقراطية تتوخى تطبيق النقد على العلم نفسه لأنها ضد التسلط والطغيان. فالإنسان ذو قدرة، كما السلطة السياسية والسلطة الدينية، على توهّم ما يتخطى حدود طبيعته أو طبيعتها. فلا بد من ضبط هذه القدرة حتى لا تتفاقم عواقبها السلبية. وقد لا يكون نزْعُ الأوهام من الحياة أمراً ممكناً بصورة راديكالية، لكن العلم لا يحتاج إلى تشغيل قوة التوهّم حتى تحتلّ مكانها في علاقة الإنسان بالحقيقة، فقد ولّى زمن المعارك المفتوحة تحت عنوان العلمويّة.
وباتت الديمقراطية قادرة على انتهاج سياسة متوازنة تعطي العلم حقه بلا توهّم حول قدرته على احتكار الحقيقة، تمهيداً لتوظيفه في خدمة التنمية العادلة 5 .
أما القسم المتعلق بالديمقراطية والاستنارة بالفلسفة فيستهلّه المؤلف بالتوكيد على فكرة واضحة هي قدرة الديمقراطية على رعاية حرية الفكر وإبداعه، وأن تاريخ الديمقراطية الحديثة يكشف أن الفلسفة ليست موضوعاً رئيسياً بين موضوعات سياسة الحقيقة فيها وحسب، وإنما هي الفاعلية النظرية الّتي أسهمت بقوة في تكوينها ومواكبتها. وإن الديمقراطية، باعتبارها رؤية جديدة للإنسان وللسياسة، تستمد روحها ومبادئها من الفلسفة السياسية. ويوضح نصار أن الأدوار الّتي يتعين على الفلسفة أن تقوم بها في الديمقراطية هي أربعة أدوار: سياسي وأبستمولوجي وأخلاقي وميتافيزيقي. لكن لا بدّ للقوى المنخرطة في عمليات الانتقال إلى الديمقراطية من تأسيس برامجها العملية على نظريات فلسفية متماسكة حول شتى الحقائق التجريبية أو المعيارية، الّتي تدخل في بناء أنظمة الديمقراطية. وليس المطلوب أن تخترع هذه النظريات ما ليس في الحسبان، بل أن تبني المداميك الّتي تجعل الشعب يتحرّر من سيطرة التراث على عقول أفراده وفئاته. هكذا يتسع المجال، مع نظرية الدولة ونظرية الشعب، لنظرية الحرية ونظرية المساواة ونظرية القانون ونظرية التربية ونظرية المجال العموميّ ونظرية العدالة الاجتماعيّة ونظرية العمل الحزبيّ ونظرية المواطنيّة ونظرية النظام الدولي، بحيث يتسلّح العمل من أجل الديمقراطية بما يكفي من التصورات القوية لتدمير هيمنة الاستبداد على العقول.
بهذه الأبعاد المؤسِّسة للديمقراطية بالنقد الصارم، يصحّ الجزم بأنّ الديمقراطية تحتاج على الدوام إلى خدمات الفلسفة، من أجل معالجة المشكلات المستجدّة في إدارة شؤونها. ولما كان الخطاب الفلسفي خطاباً نقدياً على نفسه وهو يتناول حقيقة الديمقراطية ومشكلاتها، فإنه يضيف إلى دوره السياسي دوراً معرفياً يُخضع ما ينتشر في المجتمع من خطابات إيديولوجية ودينية وبراغماتية وعلمية وأسطورية وطوباوية لتحليل نقديّ يتناول، في ضوء علم المنطق ونظرية المعرفة العامة، المنطق الداخلي لكل خطاب وعلاقات التفاعل، حتى يتبيّن في المحصّلة قيمة الحقيقة المحمولة على تصوّراته وأحكامه واستدلالاته. ولعل تركيز نصار على هذا الدور الابستمولوجي المعرفي عائد إلى الفائدة الكامنة في تعطيل إمكانيات التصادم عندما يجري تجاوز الحدود. ولا يتردّد المؤلف في تعريف الابستمولوجيا بأنها فلسفة الحدود بين أنماط التفكير. فمتى ساد الاعتراف المتبادل بالمحدودية قياساً إلى الحقيقة الكاملة، ساد الاحترام المتبادل بين المواطنين وسهلتْ بالتالي محاصرة المسائل الخلافيّة، كمسألة الإجهاض، أو عقوبة الإعدام، أو الموقف من نظرية التطور، أو حرية الرأسمال المادي، أو دونيّة المرأة، أو تحسين النسل، أو منع الحجاب، أو مثيلاتها من المسائل.
ويعتبر مؤلف كتاب «التنبيهات والحقيقة» أن تاريخ حرية الفكر الفاعلة في تقدّم الحضارة البشرية هو تاريخها في الحداثة الأوروبية التي امتدت كظاهرة ثقافية هائلة الطموح على المعمورة جمعاء. يعني ذلك، قطْعاً، أن تراث الحداثة الأوروبية في ما يخصّ حرية التفكير والاعتقاد هو تراث للبشرية جمعاء، وإن كانت الذاكرة لا تتعامل مع أحداثه التفصيلية على النحو نفسه في الحرارة والبرودة، تبعاً لدرجة ابتعاد صاحب الذاكرة عن تلك الأحداث وآثارها، وتبعاً لنوعية حاجته إلى استحضارها والاعتبار بها.
من ذلك على سبيل المثال الكوجيتو الديكارتي 1637 الذي يعمّق نصار للقارئ حفريته المعرفية حتى الإشباع. فالكوجيتو كان حدثاً فاصلاً ومنعطفاً شاملاً لا بمعنى أنه كان جديداً كل الجّدة، بل بمعنى أنه كان تأسيساً وإعلاناً بأن عصراً جديداً في تاريخ الفكر البشري قد انطلق ولا شيء يستطيع إيقافه. ففي الكوجيتو تتلاقى تأثيراتُ تفجيراتٍ حضارية نهضوية تنويرية أمست عنواناً لمرحلة كاملة من تاريخ الحداثة الأوروبية هي مرحلة التأسيس والانطلاق والانفتاح على اللامحدود. وينعقد لواء الاستنباط الفلسفي العالي لنصار إذْ يقول قبل الوصول إلى أهميّة الكوجيتو الأخلاقي: «ليس الأهمّ هو عظمة الكوجيتو، بل مسؤولية الكوجيتو. أنا أفكر إذاً أنا مسؤول، لا عن كوني مفكراً، بل عما أفعله بكوني مفكراً. ومسؤوليّتي دائمة بدوام كوني مفكراً… حرية التفكير في منطق الكوجيتو هي، أولاً، حركة تحرُّر للفكر من كل سلطة معرفية تفرض نفسها فرضاً عليه وترجعه إلى موقف التلقي والتسليم بحقيقتها. وهي ثانياً اضطلاع بمسؤولية الفكر عن بلوغه الحقيقة. الكوجيتو لا يقول إنّه هو الحقيقة كلها، بل يقول إنه هو الطرف المسؤول في الإنسان عن تدبير شأن الحقيقة» 7 .
يتحرك نصار، بعد ذلك، إلى تبيان اختراق النقد لعصر الأنوار من أوله إلى آخره. وقد أصبح النقد في تلك المرحلة العنوان الدافع لحرية التفكير. فالمسألة في رأيه ليست مسألة قطيعة معرفية بقدر ما هي مسألة تغيّر في المرتبة. وقد أدّت فلسفة كانط الدور الانتقالي في هذا التغيّر، كما أدّت الثورة الفرنسية دور الربط الوثيق بين النقد والتغيير الفعلي للنظام القائم، ومتى انطلقنا من كانط فإننا نجد أن نقده لبنى العقل والمعرفة العلمية والمعرفية الميتافيزيقية، باسم العقل والإخلاص للحقيقة، قد مهّد الطريق لنوع آخر من النقد تناوَل المجتمع الحديث لا العلم الحديث وحده، وذلك باسم العدل والعلم معاً. ويتعمَّد نصار عدم إغفال دور كل من هيغل وفيورباخ لذلك النوع القاسي من النقد الحديث.
أما المحاضرة الّتي ألقاها نصار في الجامعة الأميركية في بيروت وأدرجها في الكتاب ضمن قسم عنوان «الديمقراطية والصراع العقائدي» فيميّز في ثناياها بين النظام السياسي أو العمل السياسي ديمقراطياً، حقاً وفعلاً، إلا إذا تأسس على الديمقراطية بمعناها الجوهري، وهي الّتي تشكّل العَلْمانية شرطاً لها. فالدولة الديمقراطية تقوم على ثلاثة أركان تقتضي جميعها استقلالها عن الدين وحيادها بالنسبة إليه. إنّ العلمانية شرط ضروري للديمقراطية، يؤكد نصار، لكنها ليست شرطاً كافياً، إذ يمكن أن تكون الدولة علمانية من دون أن تكون ديمقراطية على غرار ما حدث مع الدولة النازية في ألمانيا. فالعلمانية لا تخدم الفلسفة السياسية والاجتماعية إلا إذا قامت الفلسفة بواجبها من أجل تأسيسها في العقول والمؤسسات… أما الوطنية فهي أيضاً من الشروط الأساسية الموضوعيّة لقيام الديمقراطية لأنها تجدد الانتماء الّذي يوحّد الشعب توحيداً شاملاً أفقيًّا وعموديًّا. ففي الوطنية، الانتماء إلى الأرض ليس مجرد انتماء جغرافي وإنما هو جغرافي اجتماعي – سياسي. ويرى نصار أن التذكير بهذه الحقيقة المعروفة منذ قرون شأن واجب، لأن اشتداد حركة العولمة يكاد يوهم الناس بأن عصر الأوطان والوطنيات قد أفل، وأن المعمورة كلها قد أصبحت أشبه بقرية. فالمسألة ليست علاقة رومنطيقية أو صوفية، كما أنها ليست فقط علاقة اقتصادية يحكمها تطور الأسواق في العالم، وإنما هي مسألة المجتمع الوطني والهوية الوطنية والتضامن الوطني والتربية الوطنية والرموز الوطنية والثروة الوطنية والروح الوطنية والكرامة الوطنية والمستقبل الوطني. أي أن الوطنية، هي كالعلمانية ومعها شرط ضروري لقيام ديمقراطية حقيقية، لأن التحقق الفعلي للديمقراطية يكون بتحقيق مبادئها.
ثم يُفْرد قسماً آخر لماهية الفلسفة وضرورتها، منتقلاً من خصوصية القول في ماهية الفلسفة وفي الفارق الحاسم بين القول في ماهيتها والقول في ماهيات العلم والفن والدين، باعتباره فارقاً كامناً في المرجعيَّة، وبعد أن يعطي مفهومه المتجدد للفلسفة، الّذي يمكن اختصاره بالقول إن الفلسفة تفكير عقلاني في مبادئ الأشياء، يلفت إلى أن كانط، الّذي أعطى صورة نموذجية عن ممارسة الفلسفة بوصفها تفكيراً عقلانياً في مبادئ المعرفة، قد جعل النقد معه وبعده صفة ملازمة للعقلانية الفلسفية. كما صار مفهومه للنقد، أي البحث عن شروط إمكان المعرفة العلمية والعمل الأخلاقي، علامة فارقة في تطوّر الفلسفة.
ولما كان العلم يبني موقف أتباعه من الفلسفة على فكرتين: تفيد الأولى أن المعرفة الصحيحة للواقع هي المعرفة العلمية وحدها، كما تفيد الثانية أن العلم مؤهّل للتوصل إلى المعرفة الصحيحة للواقع بكليته، فليس للفلسفة، والفكرتان هكذا، محلٌ في المعرفة الصحيحة إلا من حيث اختصاصها بالمنطق وتطبيقاته 8 .
أما المقارنة بين الفلسفة والدين فيكثفها نصار تكثيفاً مباشراً مفاده أن الفلسفة تسأل عن المعرفة ومبادئها فلا تجد في الدين جواباً متكاملاً عن هذا السؤال، لأن قضية المعرفة بأبعادها وأشكالها كافة ليست موضوعاً مركزياً في الدين، وإنما تجد ممارسة محدّدة للمعرفة أركانها النبوّة والوحي والإيمان، وأدواتها منظومة من الأساليب الأدبية المتباينة بحسب المعاني المراد إبلاغها. وهذا يتيح للفلسفة أن تمارس على الخطاب الديني النقد نفسه الّذي تمارسه على الخطاب العلمي والخطاب الإيديولوجي، يعني النقد الإبستمولوجي الّذي ينظر إلى قيمة كل خطاب في ضوء معيارَيْ المنطق والحقيقة. ويذهب نصار إلى أبعد من ذلك حين يصّرح أن الدين ينفتح بمفتاح الإيمان لأنه إيمان بإله يتكلم. فلا يمكن تسويغه بين الناس إلا في إطار ما تحدّده فلسفة الإيمان وفلسفة اللغة، خارجاً عن الدين وباستقلال عنه… بهذا المعنى يمكننا القول إن الدين هو ما يحتاج إلى الفلسفة، وليست الفلسفة هي ما يحتاج إلى الدين 9 .
يَحْسُن بنا أن نشير إلى حوار آسِر للفيلسوف نصار جرى مع مجلة «يتفكرون» عام 2017 لكنه لم ينشر في حينه، إلا أن نص الحوار منشور في الكتاب الّذي نعرض له، تحت عنوان «توضيحات على هامش السيرة» أي سيرة نصار وتطوره الفلسفي. ففي ذلك الحوار يُبيِّن نصَّار، بعد محاولة النقد الفلسفي التي قام بها لظاهرة الطائفية في لبنان 10 ، وبعد المناقشات العديدة المتناقضة التي أثارتها تلك المحاولة، يُبيِّن أن دراسة الشرط السياسي والشرط التاريخي في وجود الإنسان، وهي عماد المشروع الّذي عكف على بلورته وتنفيذه، لا يمكنها أن تتحقق على مقتضى الكونية الفلسفية إلا إذا تخلّصتْ من منطق الصراع بين المذاهب السياسية المرتبطة بالخصوصيات الجماعية التاريخية، وارتفعت بموضوعها إلى مستوى الإنسان بكليّته النوعية، دونما نظر في البداية، إلى كيفية تعاملها مع الأفلاطونية أو الأرسطية أو الرّوسّوية أو الهيغلية أو المكيافيلية أو الخلدونية. وأعلن نصار، في منتهى الوضوح، أن ذلك كان منطلق انكبابه على دراسة الأدبيات السوسيولوجية الّتي تناولت تلك المذاهب تحت مصطلح الايديولوجية من دون أي اتفاق في ما بينها على تعريفه. وقد أوصله بحثه إلى صياغة تعريف تركيبي للايديولوجية يربطها ربطاً عضوياً بالتعبير والدفاع عن وجود جماعة تاريخية معينة، وعن مصالحها وتطلّعاتها 11 .
وفي جوابه على سؤال متصل بسبب تكوُّن مشروعه الفلسفي في سياق التعامل مع تاريخ الفلسفة، بدءاً من الاشتغال على فكر ابن خلدون ثمّ على الفلسفة الوجودية، قبل التركيز على الاستقلال الفلسفي، ليس فقط عن الايديولوجية بل حتى عن مسيرة الفلاسفة المنتقلة من قمة إلى أخرى. في ذلك الجواب يقول صاحب المؤلفات الفلسفية الوازنة التي لا تقلّ عن عشرين مؤلَّفاً: «إن ما كان يُعجبني ويُدهشني ويسحرني في تاريخ الفلسفة لم يكن يأتي من مذاهب الفلاسفة، بصرف النظر عن التفاوت في ما بينها وميلي العقلي إلى بعضها دون بعضها الآخر، بقدر ما كان يأتي من فعل التفلسف المبدع المستأنَف من فيلسوفٍ كبير إلى آخر… وقد وجدت نفسي أمام ضرورة الذهاب إلى ابن خلدون… لأنه أعظم مفكّر في السياسة والتاريخ أنجبته الثقافة العربية الكلاسيكية… لكن المطلوب لاستئناف القول الفلسفي في السياسة وفي المجتمعات العربيّة اليوم يتجاوز المستوى الذي بلغه مؤلف الإسلام وأصول الحكم علي عبد الرزاق في تعامله مع الثروة الخلدونيّة، كما يتجاوز المستوى الّذي بلغه ابن خلدون نفسه في تناوله للسياسة بلغة الواقعية العمرانية التاريخية المحضة 12 . كل ذلك من غير أن يفوت نصاراً التنويهُ بإسهامات مفكرين عرب معاصرين في المسيرة الفلسفية المعاصرة والحديثة.
على أن نصّارًا يجزم في خاتمة كتابه بأن الأسباب التي دعته إلى الاهتمام بفلسفة السلطة هي نفسها ما دعاه إلى الاهتمام لاحقاً بفلسفة الحرية. وقد ظهر له بعد تبلور مشروعه للاستقلال الفلسفي أن المدار الرئيسي الجامع للنظر الفلسفي في الإنسان هو مدار الفعل. فالإنسان كائن يفعل، بصرف النَّظر عمّا إذا كان فعله مختلفاً عن أفعال جميع الكائنات في العالم أم لا. فما معنى الإنسان بوصفه كائناً، وبوصفه فاعلاً، وتالياً بوصفه كائناً فاعلاً؟
تلك أسئلة اشتغل عليها المؤلِّف طويلاً وما زال، لأن السلطة والحرية مترابطتان ومتقاطعتان. لكن المشكلة الكبرى التي يواجهها العرب، على صعيد بناء الديمقراطية كنظام اجتماعي سياسي معياري، هي أنه يتوجّب على الشعوب العربية أن تبني في زمن قصير، وتحت ضغوط هائلة من الداخل والخارج، مثيل ما بناه الغرب الحديث لنفسه على مدى قرون. فتاريخ المجتمعات الغربية، منذ أوائل القرن السادس عشر حتى أيامنا، في ما يخصّ السلطة والحرية، هو التاريخ الذي يمتلك أهم المفاتيح المؤدّية إلى تفوقها وقيادتها للعالم، من دون أن يعني ذلك سلامة كل ما استخلصَتْه من بناءاتها حول السلطة أو حول الحرية. لذلك تنطرح في ربوعنا نظريات الاقتباس واختصار المراحل، ويدفع اليأس أو الشعور بالانهزام أحياناً إلى استدعاء أمجاد الماضي، تعويضاً عن تاريخ ما زال موضع تمجيد، أو تشاؤماً من حاضر لا يبدو فجره وشيكاً، ولا حتى بعيداً.
أستاذ الفلسفة السياسيَّة والحضارات في الجامعة اللبنانيّة.
مراجع:
نصار، ناصيف، التنبيهات والحقيقة، دار الطليعة 2019، ص 237.
خضر، جورج، افتتاحية جريدة «النهار» في 4/5/2005.
نصار، المرجع نفسه، ص 16.
المرجع نفسه، ص 18.
المرجع نفسه، ص 50-51.
المرجع نفسه، ص 60-61.
المرجع نفسه، ص 76.
المرجع نفسه، ص 190 – 197.
أنظر الفصل كله في المرجع نفسه وخصوصاً ص 209 – 210.
في وعي له مبكر، يأخذ نصار بالموقف القائل إن الطائفية ليست ظاهرة سطحية أو جزئية بل هي ظاهرة كلية تؤلف نظاماً كاملاً له أساساته وشروطه ونتائجه في جميع قطاعات المجتمع في لبنان. أنظر مجلة «مواقف» بيروت عدد 1 يونيو 1969، مقالته بعنوان: ما هي طريق العمل؟
نصار، التنبيهات والحقيقة، ص 218-219.
المرجع نفسه، ص 227-229.