القصة الوجيزة: تأصيل واصطلاح
د.دريّة كمال فرحات
إنّ المتصفّح لما يُنشر في صفحات الفيس بوك أو وسائل التّواصل الاجتماعيّ، يرى هذا التّفاعل الكثيف لمحبي الكتابة والإبداع، وقد يكون منتج النّصّ مبدعًا فذًّا، أو هاويًا ينشد الشّهرة والوصول، أو مبتدئًا يحتاج إلى من يأخذ بيده إلى برّ الأمان. ويلجأ المبدعون إلى تصنيف ما كتبوه ضمن فنّ أدبيّ أو نوع إبداعيّ معين. وهنا نقع في دائرة المصطلح وتأصيله. وتبيان حقيقة الانتماء للنّصّ المنشور.
وقد تحدّث النّقاد قديمًا وحديثًا عن مفهوم هذا المصطلح، فرأى الجرجاني أنّ الاصطلاح عبارة عن اتّفاق قوم على تسمية شيء باسم ما ينقل موضوعه الأوّل وإخراج اللّفظ من معنى لغويّ إلى آخر لمناسبة بينهما. ومن هنا لا تكمن أهمية المصطلح بكونه لفظًا يطلق على معنى معين من قبل مجموعة اتّفقت على استعماله ولأنّه وسيلة من وسائل نشر الثّقافة وتسهيل المعرفة فحسب، بل لكونه أداة من أدوات توحيد الفكر. فإنشاء المصطلح هو في خدمة الحياة والفكر جميعًا، أي أنّه أداة من أدوات التّفكير الأدبيّ، وما يعمّق هذا المصطلح هو الاتّفاق على استخدامه، كما ذكر النّاقد «أبو البقاء الكفوي» في تعريفه للمصطلح، حيث قال إنّه اتّفاق القوم على وضع الشّيء.
وانطلاقًا من هذا الباب الكبير المفتوح أمام المبدع وغير المبدع، ما دفع الجميع إلى قَدْح اليراع للتّعبير عمّا في خلجات النّفس، وهنا يحضرنا ما قاله أمبرتو أيكو في هذا المجال إنّ وسائل التّواصل الاجتماعيّ أتاحت الفرصة للحمقى ممن كانوا يهذرون في البارات ولا يسيئون للمجتمع ويمكن إسكاتهم إذا تمادوا، أما في وسائل التّواصل الاجتماعيّ فقد بات لهم الحقّ في الكلام شأنهم شأن الحاصل على جائزة نوبل، إنّه غزو البلهاء. لهذا رفض هذا الهجوم على الكتابة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ. وما يصوّب هذه العملية الإبداعيّة هو أن تكون تحت مجهر النّقد وفي عين العاصفة، وأن تكون ضمن عدّة النّاقد الأدبيّ الذي يستطيع أن يميّز بين الغث والسّمين، ليُخرج هذه النّصوص من خانة الإعجاب الشّخصيّ، أو العلاقات الاجتماعيّة، أو تبادل المجاملات عبر وسائل التّواصل. فمن هنا كان يسعى ملتقى الأدب الوجيز في البحث بالقضايا النّقديّة، وينشد تأصيل القصة الوجيزة.
والتّسميّة هي أوّل ما نقف عنده، فمع ظهور هذا النّوع الأدبيّ، أطلق الدّارسون عليه مصطلحات عدة. ومن بين هذه التّسميات: القصّة القصيرة جدًّا، ولوحات قصصيّة، وومضات قصصيّة، ومقطوعات قصيرة، وبورتريهات، وقصص قصيرة، مقاطع قصصيّة، ومشاهد قصصيّة، وفقرات قصصيّة، وملامح قصصيّة، وخواطر قصصيّة، وإيحاءات، والقصة القصيرة الخاطرة، والقصّة القصيرة الشّاعريّة، والقصّة القصيرة اللّوحة. والتّسميّة لا بدّ أن تطوّق هذا المنتوج الأدبي تنظيرًا وكتابة والإحاطة بهذا المولود الجديد من كلّ جوانبه الفنية والدّلاليّة، وأوّل ما يلفت في هذه التّسميّات أنّها لا تعتمد الإيجاز الذي هو سمة أساسيّة من سمات البنية في هذا النوع، من هنا جاءت التّسميّة أي القصة الوجيزة.
فالوجيز كمصطلح لغويًّا يعني الموجز والمختصر، والوجيز هو الكلام القصير السريع الوصول إلى الفهم، وعليه فالوجيز يعبّر بقليل من الألفاظ عن كثير من المعاني. فمن هنا، من المهم التّعبير عن المعاني الكثيرة بقليل من الألفاظ، فكيف نضع تسمية طويلة مع قدرتنا على الإيجاز. وإذا كان العنوان يستند إلى الإيجاز فإنّ بنية القصة الوجيزة تعتمد التّكثيف الذي بات ميزة هذا النّوع السّرديّ. وهو يعني إذابة مختلف العناصر والمكوّنات المتناقضة والمتباينة والمتشابهة وجعلها في كلّ واحد، أو بؤرة واحدة تلمع كالبرق الخاطف، والتّكثيف يفترض بحضوره عددًا محدّدًا من العناصر، والتّقنيات على مستوى اللّغة في التّركيب والمفردة والجملة، وعلى الموضوع القصصيّ، وطريقة التناول، عبر اختيار الفكرة والمحافظة على حرارة الموضوع، وجدّته، والقبض على نبض النّص.
والتّكثيف لا يجوّز كتابة نصّ سرديّ ثم اختصاره أو تقليل عدد كلماته. وهذا التّكثيف أيضًا يتطلّب الالتزام بعدد من الكلمات، وقد ارتأينا في ملتقى الأدب الوجيز كتابة نص بحدود إحدى وعشرين كلمة من دون أدوات الرّبط. وتكتسب هذه المسألة أهميتها خصوصًا ما نراه في صفحات التّواصل الاجتماعيّ من نصوص ينسبها منتجوها إلى الفنّ القصصيّ الوجيز، وقد تصل بعضها إلى نصف صفحة أو أكثر، ولا يعني ذلك أنّنا نحكم برداءة هذه النّصوص، أنّما إعلان خروجها من باب القصة الوجيزة، لأنّها قد فقدت عنصرًا أساسيًّا ألا وهو التّكثيف والإيجاز. ولعل البعض يرى أنّه في تحديد عدد الكلمات تقييدٌ للكاتب، والرّد على ذلك هو في معرفة تقنيّات القصّة الوجيزة وأسسها، ما يؤكّد تأصيل النّوع للنّصّ.
وتركّز القصة الوجيزة في بنائها على نمو الحدث وحركية الأفعال في ينائها السّرديّ. ويؤدّي الزّمن دوره في النّص، وقد أثار رولان بارت قضية الزّمن السّرديّ وأعلن بأن أزمنة الأفعال في شكلها الوجوديّ والتّجريبيّ لا تؤدّي معنى الزّمن المعبّر عنه في النّصّ وإنّما غايتها تكثيف الواقع وتجميعه بواسطة الرّبط المنطقيّ. وتقوم القصّة الوجيزة على مجموعة من الأحداث، والأفعال السّردیّة التي یشّدها رباط زمنيّ، ومنطقـيّ معین. ولقد أثار عنصر الحدث، ونسق بنائه ونموّه اهتمام النّقاد منذ القـدم، فعُـدَّ أرسـطو أوّل من أشـار إلیه في نقد المسرحیة، إذ اعتمد على المثلث الذي اشتهر باسمه فی ما بعد، ثم قام نقد الرّوایة على لبنات هـذا البنـاء الأرسـطي، معتمـدًا مثلـث التّطـوّر مـن بدایة، وقمة، ونهایة .
ولم تبتعد القصة الوجيزة عن تبنّي العناصر الثلاثة: العرض والنّمو والعنصر الدّرامي، لكنّها في أغلب الأحيان تحتاج إلى إلغاء التّفصيلات، وقد تكتفي بعنصر أو عنصرين حسب ما تحتاج إليه. فهي فكرة أو حالة تمثّل ومضة من الحیاة، فأحداثها غالباً ما تكون مقتطعة من الحیاة الیومیة. ولعلّ شكلها حتّم علیها الالتزام بتلك القاعدة – بساطة الحدث لتكون متجانسة مع نفسها.
القصة الوجيزة نوع أدبيّ يشقّ طريقه إلى متنفس الأدب، ويضع لنفسه أسسًا تحدّد هويته، وترسم إطاره العام، وملتقى الأدب الوجيز يؤمن بالتحاور والنّقاش للخروج من قوقعة المتعارف عليه، وبناء نمط جديد يساير الحياة بتجدّدها وتطوّرها.
أستاذة في الجامعة اللبنانيّة وعضو ملتقى الأدب الوجيز.