في رحيل أبو عاطف… موت حافظ أمانات الفقراء في زمن موت العيش المشترك في جعبة ساعي البريد!
جهاد أيوب
هو من عمر والدي ولكنه صديقي…
هو والد صديق طفولتي، ولكننا كنا ننسجم في النقاش والحوار والمواقف…
هو لا يقبل أن تقاطعه قبل أن يشرح وجهات نظره حتى الرمق الأخير ومن ثم يعطيك حق البوح!
هو لا يسمح باستغابة الآخرين، ولا الحديث عن أناس ليسوا بيننا، ولكنه يسمح بالنقد والانتقاد .هو لا يحب الخصام مع أنه يؤمن بالمواجهة من أجل التصويب.
هو… صديق الجميع والثائر على الجميع، ومن المستحيل بعد أن تكبر، وتتفهم أمور الدنيا بكل تناقضاتها من المستحيل أن لا تصادقه وتعترف بصوته المرتفع، وبكل ملاحظاته السابقة! هو لا يكذب ويقول ما في جعبته، طلبت منه أو لم تطلب، هو واضح جداً، وهو ذاكرة بيضاء وجميلة رغم المرحلة الحرجة التي كان فيها الوطن.
هو صديقي معروف قبيسي، أبو عاطف…
1+1=2 عند أبو عاطف ومن المستحيل تقسيم النتيجة، يرفض المناقشة بتقسيمها، ولا يقبل النقاش بذلك. وهذا ينعكس على الإنتماء في البلد، والوطن والعائلة والقلب. يحسم حسماً قاطعاً بأن كل هذه الجلجلات والثرثرات، والفوضى والخيانة والطعن والغدر لن توصلنا إلى تقسيم القسمة، إلى قطع طرقات القلوب وتقسيمها… رغم كل هذا الحسم والنظرات الحادة هو المتفائل بالمقبل، والكريم بالعطاء، والسعيد لأنك تلاغيه ولا تتفق معه، وحينما تصرّ على العناد والنقاش يرفع نظراته إلى السماء بحجة إني بلغت ويصمت !
هو كان طائر الفينيق في الحرب الأهلية اللبنانية التي ذبحت الوطن عام 1975، كان الأمين على رسائل الناس، كان الأمين على أموال الناس، كان صندوق الأمانات في زمن تلاشت فيه الأمانات…
في زمن الحروب القذرة كما حال حروب الشعوب اللبنانية والتي تعاد مع غباء المواطنة الطائفية الأجيرة دائماً نجد أبو عاطف نافذة القرية والقرى المجاورة… نافذة فيها إشراقة قلوب لا نشعر بما قدّمه إلا لحظة العوز ووصوله… وأبو عاطف هو ذاك النافذة التي أنعم الله علينا به كي يفتح أبواب الليل في وقت العوز.
معروف قبيسي شريك الهم، وشريك الفرحة، وشريك الصراخ الداخلي حتى لا تقع الفضيحة أيام الحياة الصعبة وأيام الشدّة في تلك الظروف المبهمة في حرب شرسة… صوته الجهوري هو الصافع، مواقفه في إعطاء الرأي هي الحسم، رأيه لا يعرف غير الصواب، أعجبك أو لم يعجبك.
كان معروف قبيسي إبن بلدة الدوير الجنوبيّة من أوائل العاملين في مطار بيروت الدولي في شركة نفط مسؤولة عن تأمين خزانات الطائرات بالوقود.. كان شاباً، وشهماً وجاداً، ولا يرفض لمن يحتاجه طلبات الحاجة!
الوحيد لديه صندوق البريد، وكلنا من غير صندوق بريد فقط نسمع عنه في كتاب القراءة العربية ولا نعرفه، وعنوان صندوق بريد أبو عاطف وزّع على كل الخليقة في الجنوب، خاصة أبناء البلدة!
بلدتي في تلك المرحلة رفضت الحروب العبثية ومن شتلة التبغ، وسنابل القمح، وشجر التين والزيتون والصبار والصبر خاضت مخاض العلم، وفتحت أبواب الغربة لأولادها بين الدراسة والعمل… كل بيت من بيوت بلدة الدوير كان لها سفراء في الغربة، وكل الأبناء السفراء يحتاجون إلى بريد كي يتراسلوا ويراسلوا وصندوق أبو عاطف هو الهدف!
كان بالنسبة إلينا ونحن الصغار نتلهى بالحوار وكرة القدم وكتب الدين والشيوعية والاشتراكية والقومية والفنّ والشعر وموسى الصدر إمام المعرفة والشمس خارج الحرب التي وقعت وقطعت سبل العيش. كان هو الأمل حينما تطلّ سيارته بيجو 504 زيتية اللون، والقادمة من بيروت… بيروت مدينة العجائب.
كل الطرقات مقطوعة، وكل الحواجز الغبية على الطرقات الغريبة… ولكن أبو عاطف كل سبت يقطع الحواجز، ويجب أن يطلّ مع جعبة فيها أسرار كل الغربة وكل الوجع وكل الشباب المهاجر، وكل الفلوس لعائلات محتاجة تنتظر ما يرسله أولادها كي تعيش وتعلّم ما تبقى من الأولاد من الأسرة ذاتها.
يصل أبو عاطف منزله في القرية، يأخذ ابنه عماد أو علي ومعهما أنا كاتب هذه السطور قبل أن يصعد منزله لنذهب برحلة ينظّم سيرها ومحطاتها أبو عاطف، وتنظيمه الدقيق جداً!
يطرق كل أبواب المنازل في القرية محملاً برسائل تطمئن وتحلّ ضيق، لا يجلس لشرب القهوة أو الشاي، ولا يحبذ تغليب الناس بالضيافة المعهودة، لكونه يعلم بالظروف، ولا يحبّ الثرثرة، ويتنقل من بيت إلى آخر لتوصيل الأمانات، بعضهم لا يشكره، والبعض يبالغ بالشكر، ومنهم مَن يشكر ويرحّب.. ويقبلون الرسائل المنتظرة.
أبو عاطف لم يكن ساعي البريد، ولا موظف وزارة الاتصالات، وليس مجبراً بأحد… بل اندفاعه في خدمة أهله وأناسه دفعته لأن يكون كل الأهل وكل الناس.
يقضي ما تبقى من نصف يوم السبت في خدمة الفرج، ومساء يوم الأحد يفتح داره لاستقبال ما سيبعث من رسائل يضعها أمانة في قلبه ولا يأخذ ثمن الطوابع بل من جيبه يدفع حتى لا يُقال: «أبو عاطف يستغلّ الناس»!.
كم كان شهماً
كم كان حاسماً
كم كان لبقاً
كم كان صديقي… كنت أزوره دائماً، وقد أكون أنا وأخوتي وقلّة قليلة جداً جداً الوحيدين ممن نزوره في شيخوخته ومرضه… كنت أفتح معه ملفات تلك المرحلة… يعاود شبابه، يعدّل جلسته، ويذهب بالبوح الطويل، بوحه لا ينضب، بوحه فيه أدق أدق التفاصيل، ويضحك من جحود بعضهم، ويبتسم في نهاية كلامه مردداً: «هذا واجبي، والإنسان في خدمة أناسه، والجميل سيناله من عند الله».
هذا هو صديقي معروف قبيسي، والد أصدقائي هدى وعلي وعاطف وعماد وعواطف… كم سأفتقدك.
سأفتقد أن أقوم بفعل إزعاجك بلطف وبمحبة، وتعمّد التشاجر معك، ومحاولة مشاكستك حتى لو كنت على حقّ… وفي النهاية دعوة على العشاء إلى جانبك،
كم سأفتقدك يا غالياً، ويا من كنت بلسماً في زمن القحط الإنساني والحروب.
في رحيل أبو عاطف.. موت حافظ أمانات الفقراء في زمن موت العيش المشترك في جعبة ساعي البريد!