لماذا لا تستطيع «إسرائيل» مهاجمة إيران؟
د. وفيق ابراهيم
يهدّد قادة الكيان «الإسرائيلي» إيران بقصف منشآتها النووية منذ عقدين تقريباً وبشكل متواصل، لكنهم لا يفعلون لاعتبارات يُرجَّح أنها على علاقة برفض أميركي أو تحذير روسي أو بالعاملين معاً.
ونذكر هنا أنّ «إسرائيل» قصفت في ثمانينات القرن الماضي المفاعل النووي العراقي «تموز»، من دون أن تعير أدنى أهمية للمؤثرات الدولية والإقليمية، كما أنّ ردود الفعل العراقية، اجتازها العدوان وسط صمت عالمي وخجل عربي.
وقصفت «إسرائيل» منذ سنوات عدة أيضاً، ما زعمت أنه منشأة نووية سورية قيد التأسيس، مستفيدة من تسهيلات عبور مقاتلاتها الأجواء التركية نحو سورية.
أما البيت الأبيض، فهو يوجّه منذ عقدين تقريباً، تهديدات دائمة إلى كوريا الشمالية، لنزع سلاحها النووي. ولا تفعل واشنطن أكثر من التهديد الإعلامي، بسبب ثلاثة عناصر هي قدرة كوريا على الردّ النسبي، والتأييد الصيني لها، والتحفظ الروسي على أي هجوم أميركي. وتكشف هذه العناصر أنّ مَن له القدرة على النجاة من الهجوم الغربي، يجب أن يجمع بين القدرة على الردّ والدفاع، والتغطية الدولية. فهل تمتلك طهران هذين العنصرين؟
وتدرك إيران أنّ مهاجمة منشآتها ترتبط بالقدرة على تدميرها، أي بامتلاك قنابل وصواريخ في وسعها اختراق أعماق أكبر مما كان متصوراً. لذلك أنشأت مفاعلاتٍ تحت الأرض بعمق أكثر من ثمانين متراً، غير قابلة تقنياً للإصابة بأضرار تدميرية، وأبقت على مفاعلات أخرى لها أهمية نسبية فوق الأرض أو على أعماق عادية. كما نشرت مفاعلاتها على مدى مساحة الجمهورية التي تزيد عن مليون و800 ألف كيلومتر مربع، فعطلت تقنياً من قدرة القاذفات «الإسرائيلية» على قطع مسافات كبيرة جداً، قد تصل إلى أقل بقليل من ستة آلاف كيلومتر باتجاه واحد، أي نحو اثني عشر ألف كيلومتر ذهاباً وإياباً.
إنّ نجاح المصانع العسكرية الإيرانية في بناء منظومات دفاع جوي متطورة وفاعلة، حسب المحللين العسكريين الغربيين، في وسعها تدمير القسم الأكبر من القوى الجوية المغيرة. وتشير الدراسات العسكرية الغربية إلى أنّ القوات الإيرانية، موزعة بحيث تستطيع كشف أي إنزال وتعطيله بسرعة كبيرة، لأنها استطاعت بناء شبكات رادار حديثة وكاميرات مراقبة دقيقة وأسطول بحري هو الأقوى في الشرق الأوسط، يسيطر على القسم الأكبر من الخليج حتى المحيط الهندي.
ويدّعي الغربيون أنّ نحو مئة صاروخ من عيارات متدرجة ودقيقة التصويب، موجودة لدى حزب الله في لبنان، وقابلة للاستخدام لحظة الهجوم «الإسرائيلي» عليها. ما يعني أنّ في وسع إيران أن ترسل عشرات آلاف الصواريخ إلى كلّ أنحاء فلسطين المحتلة، بعد أقل من دقائق على أي هجوم «إسرائيلي» جوي.
هذه المعطيات جعلت «إسرائيل» تكتفي بالتهديد اللفظي، وتسعى في الوقت نفسه، إلى حضّ الولايات المتحدة الأميركية على شنّ هجوم جوي وبري وبحري على إيران، وهي المعطيات نفسها التي دفعت واشنطن إلى مفاوضات مفتوحة مع إيران للتوصل إلى حلّ يعفيها من مواجهتها.
وتدرك واشنطن في نهاية المطاف، أنّ هجوماً أميركياً على إيران يختلف عن الهجوم «الإسرائيلي»، لأنّ التحرك الأميركي يحتاج إلى تواطؤ روسي وصمت صيني ليسا متوفرين، بينما تستطيع «إسرائيل» أن تخرج عن «نصّ» العلاقات الدولية، وتعتدي على إيران بذريعة تأييدها للمقاومات في المنطقة. فيبقى الهجوم بمستوى إقليمي.
وأمام العجز التقني «الإسرائيلي» تزداد الأزمة اتساعاً… إيران مزهوّة بإمكاناتها وواثقة من أنّ «إسرائيل» لن تستعمل أسلحة نووية ضدّها لأنها قد تتسبب بنزاعات عالمية كبيرة، لذلك تسعى «إسرائيل» والسعودية، وهما حليفتا واشنطن، إلى استخدام قوى سياسية أميركية صديقة لهما في الحزبين الجمهوري والديمقراطي واللوبيات الاقتصادية، وتحثان البيت الأبيض على تدمير إيران.
وفي المقابل، تريد فرنسا ومعها العجوز الإنكليزي، انتزاع مكاسب اقتصادية من آل سعود وحلفائهم في الخليج، فيضغطان بدوريهما «إعلامياً» على واشنطن لتأديب إيران وتعطيل تطوّرها.
وأمام هذا الالتباس، تتخذ ألمانيا موقعاً وسطياً لأنها ملمَّة بعمق المشكلة فلا تبدو تصعيدية، ولا تظهر بمظهر المستسلمة. إنها «لعبة الأمم» في الشرق النفطي والغازي، أما الروس فهم لا يقبلون بالاعتداء على إيران، وتبدو الصين بدورها محرجة، وهي المستورد الأكبر للنفط الإيراني، ولديها علاقات اقتصادية واسعة مع أميركا، فتتربّص في خلفية المشهد وتترقب النتائج بخلفية بائع بضائع ضاحكٍ أبداً ومحايدٍ يحبّ كلّ زبائنه.
نحن إذاً، أمام عجزٍ «إسرائيلي»، وارتباك أميركي، ومقاولات أوروبية، وسخط سعودي، مقابل ثقة إيرانية كبيرة. لذا يميل الخبراء إلى ترجيح ولادة اتفاق أميركي ـ إيراني متكامل حول النووي، من الجانبين التقني والسياسي، وللبلدين مصلحة في ذلك. أما من يراهن على اختلاف السياسة الشرق أوسطية لأميركا بتبدل قواها الحزبية الداخلية من الديمقراطي إلى الجمهوري، فهو واهمٌ لأنّ أميركا ليست إلا مصالح اقتصادية معولمة موجودة في الحزبين معاً، والحروب الكبيرة أصبحت مرتبطة بالقدرة على التنفيذ والتوازنات الدولية والإقليمية.
لن تمرّ أشهر قليلة، وإلا ونرى إيران عضواً في مجموعة الدول العشرين الأقوى في العالم، يبحث عن أدوار أكبر له على مساحات أوسع من تلك التي كان يتحرك فيها سابقاً. وهكذا الدول، لا تنال أهميتها إلا بجهودها الذاتية، ونأمل أن يحذو العرب حذو إيران في حروب التقدم.