الخروج… من عنق الزجاجة التنموية
د. لمياء عاصي
كتب الكثير من علماء الاقتصاد وفلاسفته في قضايا التنمية، وقد أكد جوزيف شومبيتر في كتابه «نظرية التنمية»، بأن العائد على رأس المال في أي بلد، هو العامل الرئيس في سرعة تحقيق التنمية ومستوى مؤشراتها في أي بلد، وهذا يفسر إلى حدّ كبير المزايا والمحفزات التي تعطيها الدول لرأس المال لاجتذابه للعمل في مشاريع تحتاجها البلدان… سواء الاستثمار في البنى التحتية أو في القاعدة الإنتاجية والمشاريع الخدمية، لأن توسيع حجم الاقتصاد من خلال زيادة عدد وحجم المنشآت الاقتصادية، يساعد على زيادة العمليات الاقتصادية وزيادة دوران العجلة الاقتصادية، وهذا أيضاً يضيء على السياسات التي تنتهجها الكثير من الدول النامية وخصوصاً في المراحل الأولية من النهوض الاقتصادي، وذلك بالاعتماد على ثلاثية، أولها: كفاءة وتنافسية بيئة الأعمال، ثانيها: الوصول إلى رأس المال وثالثها: ضمان المنافسة ومكافحة الاحتكار، باعتبار أن ضعف تلك العوامل تشكل إحباطاً كبيراً لدخول مستثمرين جدد إلى السوق.
تعتبر بلدان جنوب شرقي آسيا وخصوصاً ماليزيا وتايلاند وسنغافورة، من أهمّ التجارب العالمية في النهوض الاقتصادي ومسيرة التنمية، خصوصاً لجهة تخفيف الفقر والبطالة إلى حدود كبيرة، ماليزيا مثلاً، اعتمدت على رؤية واضحة منذ بداية الثمانينات، وهدفها المعلن أن تكون موجودة على قائمة الدول المتقدمة مع حلول عام 2020، ونتجت من هذه الرؤية استراتيجيات وخطط قطاعية وزمنية، أهمها الخطة المالية، والخطة الصناعية، والخطة الزراعية، وخطط أخرى في مجال التعليم والبحث العلمي وغيره، هذه الخطط لم تكن حبراً على ورق، بل كانت ملزمة لكل الجهات وتم التعامل معها بالكثير من الجدية، وتم احترام المواعيد الموضوعة والبرامج التي سيتم تنفيذها، ولعل الأهم من الخطط هي الإجراءات التي تم اتخاذها… كبنية أساسية لعملية الإصلاح الاقتصادي، وأهمها: التركيز على الكوادر البشرية. ومن المعروف، أن ماليزيا أرسلت عشرات آلاف الطلاب إلى كبريات الجامعات العالمية ليكملوا تحصيلهم العلمي العالي في مختلف المجالات، ليعودوا ويلعبوا دوراً أساسياً في عملية الإصلاح الاقتصادي وبناء ماليزيا، وتحملت من أجل ذلك ديوناً خارجية… كلفتها الكثير، كما تم العمل على هندسة وتطوير بنية مؤسساتية مطورة بما يخدم عملية الإصلاح. ولعل أهم ما في الإصلاح المؤسساتي، انتقاء بعض المؤسسات لتشكل بؤراً إيجابية يطبق عليها معايير عالمية تعمل كمحرك للإصلاح واجتذاب قطاع الأعمال وتأسيس مجلس الإصلاح الاقتصادي الوطني، مشكلاً من اقتصاديين وسياسيين ممثلين للشرائح والتوجهات السياسية المختلفة، كي يستطيع المجلس من التوافق حول التوجهات الاقتصادية المختلفة واتخاذ القرارات الصعبة، التي تفرضها عملية الإصلاح والتحول الاقتصادي من إصلاح للقطاع العام وتحرير للتجارة والانضمام إلى المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وغيرها من القرارات الصعبة التي لا يمكن لحكومة أن تتخذها منفردة.
اليوم في سورية، وبعد أن فاقمت الحرب الوضع الاقتصادي وجعلته كارثياً، وعلى رغم العقوبات الاقتصادية وخروج الرساميل الوطنية من البلد خوفاً من ضياعها في الحرب وعلى رغم الأضرار الهائلة في البنى التحتية ودمار الأحياء السكنية في كثير من المناطق، يمكن أن تقدم ظروف الحرب والحاجة إلى إعادة الإعمار فرصاً استثمارية هامة، وهذا سيشجع رؤوس الأموال، لتنخرط في مشاريع وفرص اقتصادية وتشكل رافعة مهمة للاقتصاد السوري وتسرع عملية التعافي، بشرط اتخاذ إجراءات أساسية منها: الإصلاح المؤسساتي، سواء خلق مؤسسات جديدة ضرورية ووضع القوانين التي تحكمها والأطر البشرية والنظم الإدارية التي تقوم بتشغيلها لضمان عملها بالكفاءة اللازمة، وإصلاح مؤسسات أخرى وإلغاء أخرى غير ضرورية باتت تشكل عبئاً.
في أدراج الحكومة اليوم، الكثير من الدراسات ومشاريع القوانين في مجال الإصلاح الإداري والمؤسساتي، وكان يؤمل أن تتمكن من وضع هذه القوانين والأنظمة التي تخدم وتناسب عملية الإصلاح المؤسساتي والإداري موضع التنفيذ، باعتباره دعامة أساسية للتنمية… وبسبب الظروف الاستثنائية في سورية، فضلت الحكومة التريث في تطبيق أي من مكونات الإصلاح الإداري الحكومي، ولكن بدلاً من التأجيل الكامل… يمكن للحكومة أن تلجأ للطريقة التدريجية، والبؤر الإيجابية، بحيث يتم انتقاء مؤسسات معينة، بناء على مؤشرات محددة، ليتم تطبيق الإصلاح الإداري عليها، وتقييم التجربة، بغية توسيع التطبيق إلى عدد أكبر من المؤسسات. وهذا نوع من التطبيق التدريجي للإصلاح الإداري الذي يؤثر في الإصلاح الاقتصادي في شكل إيجابي، كان في عام 2010 أيضاً محاولة هامة لمأسسة ثلاث مؤسسات مملوكة للدولة تابعة لوزارة الاقتصاد حينها… يجب إعادة إحياء عمليات المأسسة لبعض المؤسسات، كثيرون سيقولون إننا في حالة حرب وظروفنا غير عادية… إلخ، ولكن لا بد من بدايات ولو كانت انتقائية وتدريجية.
إن التطبيق التدريجي والانتقائي المدروس لبعض مواضيع الإصلاح التي ترفع كفاءة الاقتصاد السوري مثل نظم استخدام العاملين، بحسب معايير يجري تحديدها بناء على شدة تأثير المؤسسة على أولويات تضعها الحكومة، كمثال على هذه المؤسسات، يمكن البدء بالمصرف المركزي، والمصرف التجاري، ودوائر المحافظات والبلديات التي تعتبر عصباً مهماً في كل الأنشطة الاقتصادية، من شأنها أن تزيد معدلات التنمية في البلد وأن ترفع فرص الاستفادة من الظروف التي تمر بها سورية.
في السياق ذاته، تأتي عملية إصلاح آلية اتخاذ القرار الحكومي، كواحدة من القضايا الأكثر إلحاحاً في الخروج من عنق الزجاجة الاقتصادية والتنموية، وإعادة إصلاح اللجان الوزارية وخصوصاً اللجنة الاقتصادية وجعل عملية الاعتماد على خبراء مختصين بإعداد التقارير التخصصية حول القضايا التي سيتم اتخاذ القرار حولها ملزماً وليس خياراً لاتخاذ القرار، نقطة أخرى في تحسين آلية اتخاذ القرار الحكومي، بأن يكون للوزارة المعنية بالموضوع دور أساسي والوزارات الأخرى أدوار مساعدة أو ثانوية، وذلك لتقليل تداخل مهام الوزارات والجهات العامة وتعدد الجهات الوصائية، فهذا من شأنه أن يربك أي استثمار محلي أو خارجي، النقطة الأخيرة، هي خلق نظام حزم الأنظمة package لكل حالة أو موضوع استثماري وجهة واحدة مسؤولة عنه، بدلاً من أن يراجع المستثمر 21 جهة للحصول على موافقات لمشروعه، يجب أن تتولى محطة واحدة… وضع كل القيود والاشتراطات والحوافز والمزايا بحزمة واحدة وبرنامج واحد وجهة مسؤولة واحدة.
نخلص بالقول، أنه لا يمكن الانتظار لتطبيق الإصلاح دفعة واحدة، لأن ذلك سيسبب تفاقم الوضع الحالي إلى الأسوأ، في الوقت الذي سيكون الانتظار مكلفاً، لأن معظم الظروف والعوامل المحيطة متغيرة لا تنتظرنا حتى نقرر بدء الإصلاح، المقاربة التدريجية والانتقائية لبعض المواضيع الأكثر إلحاحاً وتطبيقها على بعض المؤسسات المنتقاة، ستشكل خطوات إيجابية في الطريق الصحيح.
وزيرة سابقة في سورية