العدل والإحسان: فواعل ومآزق ومغانم الداخل والخارج

عبد الفتاح نعوم ـ المغرب

تهيمن على الحقل السياسي المغربي الراهن مستويات متداخلة من الصراع الهادئ، وهذا الصراع يشغل ساحتين، ويَنْرصِد في فعل ثلاث فواعل، ويخلط أوراق الداخل بالخارج. فساحة الاقتصاد مقابل ساحة السياسة، والملكية مقابل العدل والإحسان وطبقة رجال الأعمال، وأخيراً الارتباط بين الداخل والخارج. تلك هي عناوين الحقل السياسي المغربي الراهن، الفريد أنّ كلّ الأطراف عينُها على العدل والإحسان، بحيث أنّ التحوّلات قادمة وداهمة وبنية الحكم في المغرب تعرف ذلك أكثر من غيرها، وتراهن هي الأخرى على تحوّلات يمكن أن تعصف بالعدل من الإحسان من داخلها، فماذا تربح وماذا تخسر الجماعة من صراع تسعى إليه هي، ويراهن البعض على طاقتها التعبوية ليُطوِّع مآلاته؟

الفواعل

يستثنى «اليسار» من معادلة الفواعل المؤثرة في الحقل السياسي المغربي لأسباب لا تخفى على اليسار نفسه، ذلك أنّ من بين أهمّ تلك الأسباب استحالة تنظيماته المختلفة إلى شواخص تؤثت مسرح السياسة في المغرب، وغير قادرة على التأثير بعمق في موازين القوى. إلا أنّ بعض من المطالب التاريخية لبعض تلك التيارات حظيت بنوع من الاستعارة من لدن جماعة العدل والإحسان، واهمّ تلك المطالب «الملكية البرلمانية».

منذ ايكس ليبان نشب صراع بين مكونات المشهد حينئذ القصر والحركة الوطنية حول قضيتين مركزيتين، على اثر عدم الاتفاق حولهما تعرضت الحركة الوطنية التي كان يجمعها حزب الاستقلال إلى التشظي، وتمترست خلف تشكيلات جديدة، مثلتها «الأرستقراطية الفاسية» والقوى التقدمية الإصلاحية والحركة الفكرية والسياسية الليبرالية الناشئة الوزاني . وكانت القضيتان تتمحوران حول طبيعة العلاقة مع المستعمر التقليدي وطبيعة علاقة الملكية بالحكم. فكان الخلاف بين التيار التقدمي قائماً بخصوص المواقف من التبعية، وكان الخلاف بينهما معاً من جهة وبين القصر قائماً بخصوص موقع الملكية من هرم السلطة، وطبيعة صلاحياته داخل عجلة نظام الحكم الوليد. يروي عبد الرحيم بوعبيد في حوار بينه وبين ولي العهد حينئذ، يدور مضمونه حول الأفق الذي كان يراه كلاهما للملكية، والذي يعكس رغبة جامحة لولي العهد آنذاك في تقوية موقع الملكية، وجعل الطبيعة السياسية لنظلم الحكم ترتكز على ملكية تنفيذية، فكانت جذور الصراع حول الملكية البرلمانية عائدة إلى تأول كلّ طرف من هؤلاء للديمقراطية.

جاءت الستينات وأفلت، وتركت وراءها شروخاً في الدستور وفي السياسة وفي الاجتماع والاقتصاد، والتقت تلك الأزمات والشروخ مع ما حملته السبعينيات، فقد وصلت الحركة الماركسية اللينينية حملم ذروتها، ونشب صراع بينها وبين كل المكونات المذكورة السابقة، فلم يكن في برنامجها الملكية بجميع صورها، واحتفظت القوى الاشتراكية الديمقراطية التي كانت قد شرعت في التشرذم هي الأخرى تأسيساً على الخلافات التكتيكية والصراعات على الزعامة أحياناً، بقيت محتفظة بمطلب «الملكية البرلمانية»، وفي تلك الفترة كانت حركة «العدل والإحسان» قد بدأت تستلّ منها مطلبها ذاك، وتتبناه بشكل أو بآخر.

امتازت تلك الحركة التي سرعان ما أصبحت جماعة بجمعها بين مطلب بعيد المدى متمثل في «القومة وإعلان الخلافة»، وبين مطلب آني مضمونه الحدّ من الصلاحيات السياسية للملكية، وتضع برنامجاً لبلوغه تسميه «الميثاق»، وهو وسيلة للجمع بين القوى من جميع الاتجاهات من جلّ تحقيق المكاسب «الديمقراطية الآنية»، وقد كان انخراط الجماعية في حركة 20 شباط نموذجاً مصغراً لتلك الميثاقية. فالجماعة بذلك تكون قد جمعت بين ما كان مشتتاً في برامج حركات وتيارات اليسار المغربي، وبمضمون يختلف تماماً عن ذلك الذي صيغَ في برامجهم.

في جميع الأحوال ينصبّ مطلب «الملكية البرلمانية» على إعادة إنتاج المستوى السياسي في نظام الحكم بالمغرب، بما يعني الحدّ من سلطات الملك التنفيذية. لكن الملكية متعنتة في التشبّت بصلاحياتها تلك، ومتشبّتة بما يضفي عليها الشرعية/المقبولية، وقابلة أيضاً لأن تتأثر بالتحوّلات وتخضع لتقلبات موزاين القوى، وبالتالي تقديم التنازلات الممكنة. إلا أنّ سرّ التمسك بذلك هو الحدّ من سلطات الملكية القمينة بتحصين مصالحها، ولهذا رفع في حركة 20 فشباط شعار «فصل السلطة عن الثروة» ورفعت معه التنديدات بمدبّري الثروة الملكية.

وإذا توسّعت صيغة الفواعل أكثر وجدنا أنّ هناك «طبقة رجال الأعمال المليارديرات» الذين يرغبون في إعادة إنتاج المستوى الاقتصادي في نظام الحكم، وتحويل الاقتصاد من هيمنة علاقات الإنتاج التقليدية السائدة إلى اقتصاد مصنع بالكامل، وهؤلاء من مصلحتهم أيضاً أن تسفر موازين القوى في السياسة والاجتماع عن الحدّ من صلاحيات الملك، لكن يتضح أنّ الملكية بدأت عملياً تستبق تلك الطموحات، وتسرع للتأسيس على التحوّلات العالمية الراهنة الالتحاق بنادي القوى الصاعدة .

المآزق والمغانم

كي تصل جماعة العدل والإحسان إلى مآربها فهي محاطة بمعادلات دقيقة، ومخاطر التحوّلات التي تهدّد بنية الحكم وتدفعها إلى تقديم التنازلات تلو الأخرى، تهدّد الجماعة أيضاً، فهي تمرّ أمام الاستحقاقات وتخسر منها في بعض الأحيان، وهي مخترقة لا محالة من جهات مختلفة، هذا حال كلّ التنظيمات المثيلة. لكن ثمة مأزق التحوّلات الآتية من داخل الجماعة، فهي لم يكن بمقدورها مثلاً أن تسمح لمنشد منتسب إليها في السابق أن يغني على نحو لا يميّزه عن أيّ مغني آخر، هذا شيء جيد لكنه يجعل الجماعة تضع نفسها في شرخ بين إسلاميتها وبين ما يجري الاعتقاد بأنه «حرام» والجماعة تبيحه لأعضائها، كما انه أمر مفتوح على التكرار، ومن يدري ربما بعد سنوات ينمو تيار ليبرالي داخل الجماعة.

وهناك مأزق الديمقراطية الداخلية في الجماعة، فلا شك أنّ أيّ ممتعض من تقبيل يد الملك واستقباله ببهرجة بالغة، لا شك انه لن يثق في مشروع العدل والإحسان حينما يرى أنّ الشيء نفسه يحصل مع قياداتها، ولعلّ مقاطع الفيديو حول أسلوب استقبال مرشدها السابق تؤكد ذلك، فكما تحمل تلك الصور رسائل إلى «أمير المؤمنين» الذي ترفض الجماعة إمارته، تحمل رسائل معاكسة لمن «يأمل خيراً» في الجماعة. زيادة على ذلك فالجماعة لا مانع لديها في رفاهة قياداتها وعيشهم الرغيد، ولا مانع لديها من التفاوت الاجتماعي القائم بين أفرادها، وهو ما يشي بأنها قد تكرّسه في المجتمع في حالة وصولها إلى السلطة وفق منظورها الحالي، فيجري فقط استبدال «أمير للمؤمنين» يقف على طرفي الحداثة والتقليد، ويقبل بالتنازلات من حين إلى آخر، ويصبح مكانه «أمير مؤمنين» لا يتنازل عن شيء بل ويعتقد جازماً أنه هو وقراراته الصواب المطلق.

ذلك يقود إلى معضلة قيم الديمقراطية وصورها العملية داخل الجماعة، وفي علاقتها بمن تدعوهم إلى «ميثاق». فقد كشف وجود الجماعة في حركة 20 شباط وخروجها منها أمران في غاية الأهمية في هذا الاتجاه. كانت كلّ ممارسات أفراد الجماعة تصبّ في الحط من شأن المكوّنات الأخرى، والرغبة الجامحة في قيادتها، واعتبار الحركة في أقلّ الحالات منبعاً للاستقطاب، ولفت أنظار الشارع، ورفع العصا في وجه النظام وجلبه إلى تسويات قادمة أعضاء الجماعة ينقادون في مثل هذه الممارسات دون أن يستوعبوا أبعادها الاستراتيجية . وعندما خرجت الجماعة من الحركة تبيّن أنّ منسوب الممارسة الديمقراطية الذي تبشر الجماعة به في المجتمع، تبيّن انه ضعيف إلى منعدم داخلها، فتندّر أعضاء حركة 20 شباط كثيراً على أنهم هم من كان يخبر أعضاء الجماعة بأنّ الجماعة انسحبت من الحركة، وأن عليهم أن يعودا أدراجهم!

فالجماعة في المدى المنظور لا تعد بشيء على درب تحسين مساوئ نظام الحكم الحالي في موضوع الديمقراطية، فهي لم تجد بعد صيغة نظرية للمساكنة كما تريد ذلك بين الديمقراطية والشورى والطاعة، ولا يوجد في ممارساتها ما يمكن البناء عليه في هذا الصدد، بحيث أنّ كلّ من يخالفون الخط العام ولو تكتيكياً يعامَلون بأسلوب لا ديمقراطي بدءاً بالبشيري وانتهاء بعبد العالي مجدوب. فالأكيد أنّ نظام الحكم يعرف كلّ هذه الأمور، والأكيد أنّ لديه معلومات عن تفاصيل كلّ الولادات الجنينية للتيارات المختلفة داخل الجماعة، سواء التي يجري وأدها، أو التي تحاول الجماعة استيعابها بمنطق التعدّد داخل الذات الواحدة.

تبقى علاقات الجماعة مع الولايات المتحدة الأميركية والتي تسبّب الكثير من الحرج للجماعة، وهي مسألة ذات تأثير، فالولايات المتحدة لديها معلومات حول ما سبق ذكره، وتستقي معلومات أخرى من صلتها بالجماعة، وهذا ليس خافياً. لكن أن تكون الجماعة في الحكم بصورة ما، فهذا يجعل الأمر أمام سيناريوين مختلفين، الاستمرار في خطب ودّ الولايات المتحدة كما فعل الإخوان غداة تسلمهم للسلطة في مصر، أو الخروج عن طوعها، وإعلان الاشتباك معها بعد استدراجها إلى مأزق الاعتراف بشرعية ومشروعية حكم الجماعة.

ربما الأميركي يضع السيناريو الثاني أمام عينيه بشدة، وذلك لسببين، لأن له سابقة مع قادة وحركات لم يكن في حسبانه أنهم سينقلبون عليه.

ويريد كل طرف للتحوّلات والتفاعلات أن تقوّض أركان غريمه، ويرجو أن تساعده الشروط القائمة أو القادمة على تطويع عناصر قوة غريمه لصالحه، فالنظام سيكون مجبراً على التنازلات أكثر وأكثر، والملكية لا مستقبل لها إلا إذا كانت برلمانية بالمعنى الدقيق للكلمة، والعدل والإحسان القوة الأولى في المغرب باتت تعرف جيداً أنها ليست لوحدها في الملعب، أنها مهما أضعفت القوى الأخرى أو استفادت من ضعفها فلن تستطيع فرض أجنداتها عليها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى