جمعة الرفاعي يكتب تجربة الاعتقال في سجون العدوّ في سرديّته «خارج الموعد»
جمعة الرفاعي كاتب وشاعر فلسطيني من مواليد قرية كفرعين ـ رام الله فلسطين عام 1978، درس الأدب العربي في جامعة بيرزيت، واعتقل مرتين. صدر له عام 2010 ديوان «سجينيوس»، عن «مركز أوغريت الثقافي» ويشغل راهناً موقع المدير التنفيذي للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.
سرديّته «خارج الموعد» الصادرة لدى «دار الجندي» في 81 صفحة قطعاً صغيراً، تندرج ضمن أدب السجون والمعتقلات أفاض في الكتابة حوله العديد من الكتاب الفلسطينيين شعراً ونثراً، والسردية هذه هي العمل الإبداعي الثاني للشاعر وتدور حول تجربته في الاعتقال بعد ديوانه الأول «سجينيوس».
الاعتقال يمثل حالة مجنونة من العيش، حالة فلسفية فكرية ووجودية تستدعي أن تكون فيها مختلفاً وخصوصياً. ويوفر فضاء السجن الضيق مساحة أوسع للتأمل، ففي السجن يرى الإنسان الأمور أوضح وأجلى، لذا يجد آخرون في عزلتهم سعادتهم في التأمل.
هكذا تصبح الكتابة عن المعتقل كتابة ذات مغزى، مندرجة ضمن فعل كتابي فلسفي فكري عام مفتوح على أفق من معنى المقاومة والتحدّي، ومنشغل بجمع اللحظة وتفجير ما فيها من رؤية ورؤيا.
الكتابة كوعي ثقافي طاغية في كتاب «خارج الموعد»، وتشكل هاجسا فكرياً ووجدانياً مقلقاً لدى جمعة الرفاعي، بدءاً من سطور هذه السردية الأولى، إذ يصرح قائلا: «في كل مرة لم أكتب ما يعتريني كنت أصاب بالخيبة والخيانة للقلم». فالكتابة إذن فعل متكامل النشوة يبعد صاحبه عن الخيبة والخيانة، وإن كان يشعر أحياناً بأنه يكتب عن حالة غير مفهومة. يعبّر عن تلك «البؤر الغامضة» ليحاول تفسيرها، لكنه يعلن عجزه عن التفسير المقنع، لذا لا توجد كتابة مقنعة تماماً أو نهائية في المطلق، إذ لا بدّ من أن تكون مفتوحة على احتمالين من التأويل والغاية. يعود بنا الرفاعي إلى كلماته الأولى ويحنّ إلى أوّل ما كتب. ويستذكر تلك الجمل التي ما زالت تتردد في الذاكرة. ربما حاول أن يكون متحرراً من قبضة اللحظة الآسرة ومن الفكرة والمكان والشخوص، ليحلق بعيداً فيستخدم الفعل السحري. لم يكتب عن السجن وتفاصيله وحياة الأسير مثلما فعل الكتّاب الذين كتبوا عن المعتقلات، إنما آثر أن يكتب ما أثارته التجربة فيه من إحساس بأهمية أن يهزم تلك اللحظات وأن يحلق بعيداً عن ذلك الفضاء الضيّق كي يكون أرحب، فيكتب عن أحلامه أو يكتب أحلامه ذاتها. يكتب مفارقاته الذاتية وإحساسه المرهف باللغة إلى حد صنع المفارقات اللغوية في كثير من المواقف، فيصنع النص من عجينة من متناقضات تبرز كم كانت اللحظة بعيدة عن المنطق. تلك المواقف الفارقة في حياة الكاتب يبرزها ويحملها هذا النوع من الكتابة القائمة على المفارقة الهدوء ولحظة الاعتقال، الزهور والبؤس، متألقة كقطعة من الجليد، الطائر الميت والبساتين الجميلة، أكره ما يحب المرء، الغياب على موعد . تشكل الكتابة لديه نوعاً آخر من المفارقة الكلية والمشهدية التي تبنى عليها حياة الأسير في معتقل يجعله يتأمل المكان ويألفه ألفة نفسية لا قهرية. فيحتفي ببعض التفاصيل الصغيرة. لعل التصالح مع المكان/ العدوّ الذي يغتال حريتنا قد يشكل فكرة أخرى من التسامي والتعالي على الوجع، كنوع من قهر المكان والزمان، والتحدي على الصعيد الوجودي المشخص وليس على المستوى الفكري الفلسفي فحسب، فمن هناك حيث النفس تتحدّى بالكتابة يولد فعل المقاومة الحقيقية.
تبدو الكتابة هنا فعلاً جماعياً غذ ترتبط حتمياً بالقراءة، بدءاً من تعلم الكاتب صوغ البيانات السياسية، إلى الكتابة الأدبية، فليس منطقياً أن تكتب شيئاً لا يقرأ، عندئذ تصبح الكتابة فعلاً عبثياً، فالكتابة تستدعي القراءة حتماً. العمليتان مقترنتان لا محالة، ليكون فعل «القراءة أرقى وظيفة، والكتابة أرقى كقيمة» ترتفع الكتابة لتكون فعلاً مقدساً، كأن الكاتب يحاول الإجابة عن سؤال «لماذا يكتب الكاتب؟»، فتجد الجواب المكثف المفتوح على أفق مفتوح بأنه يكتب «احتراما للسماء»، ولكي يستمرّ فعل القراءة لا بدّ من أن يستمرّ فعل الكتابة، فالكتابة هي إذن نوع من الاستجابة للقراءة التي تفترض مكتوباً حاصلاً قبل فعل القراءة.
الكتابة ليست فعلاً جماهيرياً عاماً منطلقاً من حاجة ثقافية وفكرية وفلسفية وسياسية فحسب، إنما قد تشكل أحياناً فعلاً ذا خصوصية وحميمية خاصة، لتجد الكاتب جمعة الرفاعي يتمنى لو أن والديه يتقنان القراءة ليكتب لهما شيئاً خاصاً لا يُقرأ لهما إنما يقرآنه وحدهما. يصل الكاتب إلى قناعة بقدرته على الكتابة لقراءة خاصة حققها في قوله: «فأنا أمتلك من الثقة ما يؤهلني كي أجعلهم قادرين على قراءة ما لم أكتب من خلف الشباك والفاصل الزجاجي». في العلاقة ذاتها ترتدّ الكتابة لتكون فعلاً ذاتياً تجعل من الكاتب، قارئاً لذات، متأملاً أفعاله وأقواله وطريقة كتابته، ليعيش هو نفسه الطرفين «القارئ» و»الكاتب» معاً. فيعلن في رسالته المكتوبة لشقيقه والتي أرسلها من سجن بئر السبع عام 2006 أنه فقد السيطرة على كتابة الحروف بطريقة عادية، ولعلمه بهذه الطريقة في الكتابة فإنه يطلب إلى شقيقه أن يعذره على «هذه اللغة وهذه الطريقة في الكتابة».
هذه السردية الاعتقالية ذات أسلوب خاص في التعبير عن التجربة الإنسانية التي نشعر بثقلها النفسي رغم من أنها لم تكتب عن التفاصيل الداخلية لمكان يعج بالألم، لكنها كتبت عن ذاك الأثر النفسي المتخلق في نفس الأسير لتجعله متأملاً ومحتفلاً بذاك الفعل السماوي الجميل والخلاّق.