أيّ مقاطعة ومقاومة للتطبيع نريد؟
إبراهيم علوش
ثمة فرق جوهري بين الذين يتعاملون مع مناهضة التطبيع والمقاومة بأشكالها كافة، حتى العسكرية منها، كتكتيك، والذين يتعاملون معها كاستراتيجية، أي بين الذين ينظرون لمناهضة التطبيع وللمقاومة من منظور براغماتي مصلحي عابر، والذين ينظرون إليهما من منظور مبدئي. الفرق بين المنظورين طبعاً أن المنظور المبدئي ينطلق من معيار مصلحة الأمة، أما المنظور البراغماتي فيتعامل مع مناهضة التطبيع أو المقاومة كأداة لتحقيق مصلحة شخص أو حزب أو نظام يريد أن يحسن شروط البيع والشراء، أو شروط علاقته مع الطرف الأميركي ـ الصهيوني.
قد يلتبس الفرق بين المنظورين في الواقع، خاصة إذا كان أصحاب المنظور البراغماتي يقدمون التضحيات ويتعرضون للهجمات الإعلامية أو غير الإعلامية من الطرف الأميركي ـ الصهيوني، أو إذا كانوا أكثر تأثيراً في الميدان من أصحاب المنظور المبدئي مفتقدي التنظيم والموارد مثلما هي الحال اليوم.
فلنأخذ أمثلة عملية: لا تزال المملكة العربية السعودية تتعرض لحملات إعلامية في الولايات المتحدة لأنها ترفض حتى الآن إسقاط المقاطعة من الدرجة الأولى ضد الكيان الصهيوني رسمياً، بعدما أسقطت المقاطعة من الدرجة الثانية والثالثة، وتقوم «مبادرة السلام العربية» التي تبنتها الجامعة العربية عام 2002، والتي تشكل المملكة مظلتها الأساسية، على مبدأ «التطبيع مقابل انسحاب صهيوني من أراضٍ محتلة عام 67». للعلم، مبادرة الأمير فهد مطلع الثمانينات، قبل أن يصبح ملكاً، التي ثبتتها الجامعة العربية رسمياً بعد العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982 في «مقررات قمة فاس»، كانت تقوم على مبدأ التطبيع العربي والإسلامي الشامل نفسه مقابل بعض التنازلات الصهيونية التي لا يزال يرفضها الصهاينة لأنهم يريدون استسلاماً عربياً غير مشروط.
شئنا أم أبينا، ثمة مقاومة ما للتطبيع من الدرجة الأولى هنا، لكن تحت أي سقف؟ ولأجل أي برنامج سياسي؟ وهي «مقاومة» غير ثابتة بالطبع، بدلالة اختراق بندر بن سلطان لها وغيره للتنسيق مع العدو الصهيوني ضد سورية، لكنها موجودة حتى الآن ولا نستطيع إنكارها. فهل نقول هنا إن شيئاً من مقاومة التطبيع أفضل من لا شيء؟ أم نقول إنها مقاومة غير مبدئية للتطبيع تقود موضوعياً إلى التطبيع، وتنطلق من الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود وبحدوده الآمنة، ومن السعي إلى إيجاد موطئ قدم بشروط أفضل قليلاً في الترتيبات الأميركية ـ الصهيونية للمنطقة؟ وما الفرق الحقيقي والجوهري فعلياً بين مثل هذا الموقف والحركات والقوى التي تمارس مقاومة التطبيع، أو المقاومة المسلحة في بعض الأحيان، لأجل دويلة فلسطينية في حدود 67 تحت سقف «القرارات الدولية» التي تعترف بحق الكيان الصهيوني بالوجود وبالحدود الآمنة، وتعترف بالتالي بالترتيبات الأميركية ـ الصهيونية للمنطقة سوى أنها تريد لنفسها مقعداً أو موقعاً بشروط أفضل قليلاً فيها؟
مثال آخر: حركة الـ«بي دي إس» BDS في الغرب تنطلق في الدعوة إلى مقاطعة الكيان الصهيوني من منطلق: 1 اعتبار المقاطعة بديلاً سلمياً للعمل المسلح، 2 العمل على إزالة «العنصرية» من الكيان الصهيوني، 3 وصولاً إما «لدولتين لشعبين» أو «لـ«إسرائيل» لـ«مواطنيها كافة»، 4 بالتعاون بين الغزاة «التقدميين» والنشطاء الفلسطينيين والدوليين.
مرة أخرى، ثمة جهود ملموسة هنا لمقاطعة الكيان الصهيوني في الغرب تديرها حركة «بي دي إس»، لكن تحت أي سقف؟ ولأجل تحقيق أي برنامج سياسي؟
من الواضح أن برنامج حركة «بي دي إس» يقوم على: 1 الاعتراف بحق الكيان الصهيوني بالوجود، 2 الدعوة إلى التعايش السلمي بين الغزاة وأصحاب الأرض الأصليين، 3 التركيز على منتجات الاحتلال مثل العنصرية وتجاهل الأساس وهو حقيقة الاحتلال البشعة على أرض فلسطين كلّها، 4 تحييد مسألة هوية الأرض، المحور الرئيسي للصراع، وما إذا كانت عربية أم يهودية. لذا يمكن أن نقول بأريحية إن برنامج حركة «بي دي إس» هو في المحصلة برنامج تطبيعي، بل هو اختراق تطبيعي لحركة مناهضة التطبيع.
هل يعني ذلك أن حركة «بي دي إس» لا تسبب ألماً للكيان الصهيوني مثلما تسبب مقاطعة السعودية الجزئية حتى الآن للكيان الصهيوني ألماً له، ومثلما تسبب له ألماً بعض الفصائل المستعدة للتعايش مع الكيان لو قبل هو بتقديم بعض التنازلات؟
لا ننكر أن الكيان الصهيوني يعاني من أي مقاطعة أو مناهضة سياسية أو عسكرية له، وأنه يخوض صراعات لا تنتهي ضدها. لكننا محظوظون جداً كأمة أن الكيان الصهيوني تحكمه ثقافة استعلائية متغطرسة تتطلب الاستسلام غير المشروط من المحيط العربي والإسلامي كشرط من شروط وجوده، وهي ثقافة تعتبر أي تنازلات جوهرية بداية النهاية لكيان يرى نفسه قائماً على رهبة القوة.
من الطبيعي إذن أن ندعم أي مقاومة أو مقاطعة للعدو الصهيوني، مهما تضاءل حجمها، لكن دعم الفعل المقاوِم أو المقاطِع بالقطعة شيء، ودعم الأجندة البراغماتية الملغومة أحياناً لمن يمارس مثل ذلك الفعل شيء مختلفٌ تماماً. فمن الطبيعي مثلاً أن نعتز بإنجازات الجيش المصري في حرب 73، لكن لا يجوز أن يقودنا ذلك إلى دعم أجندة أنور السادات المخترقة التي أوصلتنا إلى معاهدة كامب ديفيد. ومن الطبيعي أن نفتخر بعمليات ومعارك المقاومة الفلسطينية المعاصرة ضد العدو الصهيوني، أما تصريف ذلك سياسياً على شكل دعمٍ وتبنٍ لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وخطها السياسي الذي أوصلنا إلى اتفاقية أوسلو فمسألة مختلفة تماماً، ويمكن بسهولة تطبيق المقياس نفسه على حركة «بي دي إس» أو على حركة «حماس» في غزة. هنا قد يجد المندفعون خلف أصحاب برامج مناهضة التطبيع والمقاطعة غير المبدئية أنهم أصبحوا وقوداً لصفقة تتناقض تماماً مع أهدافهم ونواياهم الوطنية الصادقة إذا تغلب اتجاه الحمائم على اتجاه الصقور في معسكر خصومنا، والحمد لله أن صقور معسكر الأعداء لا يزالون يعصمون الكثير من حمائم مناهضة الصهيونية من الزلل.