تصعيد المواجهة.. محور المقاومة في هجوم معاكس مركب

العميد د. أمين محمد حطيط

كنا ننتظر في اللحظة التي أجل فيها توقيع التفاهم/ الاتفاق حول الملف النووي الإيراني أن تشهد المنطقة تصعيداً في المواجهة يسابق فترة الأشهر السبعة التي أجل التوقيع فيها، لأن الفرقاء الرئيسيين يعلمون أن المنطقة ستدخل بعد التوقيع مرحلة جديدة في خريطتها الجيوسياسية تختلف عما قبلها حيث يرتقي إلى المسرح لاعب إقليمي جديد متحرر من القيود والضغوط التي فرضت عليه طيلة الفترة السابقة وقادر على الانفتاح على موقع دولي مؤثر إيران ، وأن يتغير دور لاعب آخر لجهة التفعيل وتثقيل وزنه دولياً بعد أفول الحلم الأميركي بنظام عالمي أحادي القطبية.

وقد تحسبت أميركا لهذا المشهد وخشيت من الدور المستقبلي والمتعاظم لكل من إيران وروسيا، في الوقت الذي تتراجع فيه أوزان حلفائها وتابعيها من أوروبا إلى تركيا والسعودية، ولهذا كان السعي الأميركي لعمل ما، يؤدي إلى إحداث أمر واقع يخفف الخسائر الاستراتيجية في صفوف التحالف الدولي الذي تقوده أميركا.

وبالمقابل أدركت كل من إيران وروسيا وسورية المصلحة الملحة في منع أميركا من استثمار الأشهر السبعة لتحسين أوراقها وإنتاج واقع مريح لها في الميدان والسياسة على حد سواء، لأنهم علموا أصلاً أن أميركا لم تطلب هذا التأجيل إلا من أجل هذا الأمر الذي يعني إن تحقق، نجاح أميركا في منع خصومها من استثمار الإنجازات التي حققها المدافعون عن سورية وعن المنطقة في مواجهة الحرب الكونية التي شنتها أميركا بمؤازرة غربية «إسرائيلية» وأدوات إقليمية كما ونجاحها في العمل الاستباقي لتحجيم الدور المتصاعد لروسيا وإيران.

وكالعادة فان أميركا لجأت إلى العمل المتوازي في الميدان والسياسة لتحقيق أغراضها التي هي في معظمها غير مشروعة وهنا سجلت سلوكيات منها السياسي أو العسكري المحض ومنها السياسي بلبوس عسكري، حيث عقد بعد مؤتمر الأطلسي مؤتمر دولي بقيادة أميركية تحت عنوان «الحرب على داعش»، ثم كان التحرك الإرهابي التصعيدي في كل من حلب وريفها الشمالي الغربي، كما والهجوم الإرهابي على مطار دير الزور وبعض مناطق الحسكة، ثم كان العدوان الجوي «الإسرائيلي» على منطقتين آمنتين في محيط دمشق.

لقد توخت العصابات الإرهابية في ريف حلب إحداث تغيير ميداني يؤدي إلى هدفين رئيسين الأول يتعلق بحلب ذاتها ويرمي إلى منع الجيش العربي السوري من إكمال إحكام الطوق حولها تمهيداً لتحريرها منهم في شكل كامل، وهو هدف اتجه إليه بعد أن بدا أن خدعة «تجميد النزاع في حلب « أو محاولة «إقامة المنطقة الآمنة» حول حلب لن تمرا فكان الحل لدى المخطط الأجنبي تنفيذ المطلوب عسكرياً، أما الهدف الثاني للتصعيد في حلب فقد تمثل بالهجوم على نبل والزهراء وتحقيق نصر معنوي عبرهما ثم ربط كامل المنطقة بالحدود التركية دونما أن يكون للحكومة قوات مؤثرة في المنطقة.

أما على محور دير الزور فقد شاءت القوى المحركة للعصابات الإرهابية توجيه ضربة قاسية للقوات العربية السورية في المنطقة بغية إخراجها من المنطقة والاستيلاء على مخازن هامة من الأسلحة والذخيرة وربط المنطقة بمنطقة سيطرة «داعش» في العراق شرقاً.

هكذا خططوا، ولكن الميدان جاء بنتائج تعاكس ما حلموا به، حيث صمدت القوى المدافعة عن نبل والزهراء وألحقت بالغ الخسائر بالمعتدين حتى تجاوز عدد القتلى منهم خلال موجات الهجوم الثلاث عدة مئات وتضعضعت صفوفهم حتى يئسوا وأحبطوا وارتدوا إلى الجنوب الشرقي علهم يحفظون ما تبقى من ممر التموين الوحيد لعصاباتهم في حلب وهو ممر بات تحت ضغط شديد من القوات العربية السورية وحلفائها ما ينبئ بقرب انهيار مواقع المسلحين على هذا الممر وإحكام الطوق حول حلب.

أما في دير الزور فلم يكن حالهم بأفضل مما كان في حلب، حيث تحطمت موجات الإرهاب الهجومية الثلاث على أسوار المطار ثم طور المدافعون عن المطار عملياتهم ووسعوا مناطقهم الدفاعية لإبعاد المسلحين عنه بعد تساقط المئات من الإرهابيين بين قتيل ومصاب وتضعضع شملهم.

أما على الصعيد السياسي فقد قادت روسيا مباشرة بعد 24 11 تاريخ انتهاء جولات التفاوض حول النووي الإيراني وتأجيلها، قادت هجوماً سياسياً مركزاً باتجاه المنطقة، يمكنها من العودة القوية إليها من الباب الرئيسي المناسب أي محور المقاومة، هجوم تجلى بطرح مبادرة حل سياسي في سورية متزامنة مع التزام قاطع بدعم عسكري مطلق لكل من سورية والعراق، وبتطوير للعلاقة مع حزب الله إلى حد تلمس السير نحو نوع من التفاهم الذي يقود إلى دعم قوي في المجالات التي يحتاجها الحزب سياسياً على الصعيد الدولي مع التلويح بدعم يستعمل في الميدان إذا دعت الحاجة.

لقد نفذ محور المقاومة وحلفاؤه الدوليون ضربات استباقية أو ما يمكن تسميته بالهجوم المعاكس المؤثر في الميدان والسياسة، فصدمت أميركا وحلفاؤها بالنتائج بعد أن كانوا يظنون بأنهم وحدهم سيستفيدون من فرصة الأشهر السبعة لتعزيز أوضاعهم فكان الواقع عكس ما أرادوا لا بل كانت فرصة لارتقاء خصومهم وتراكم ما بيدهم من أوراق ترجيح في الميدان والسياسة.

في ظل هذا الوضع وما نجم عنه، يبدو أن أميركا احتاجت لتدخل «إسرائيلي» علني مباشر يوقف الانهيار في صفوف جبهتها ـ فكانت الغارتان «الإسرائيليتان» ضد سورية بمثابة عمل سياسي ردعي بلبوس عسكري هجومي، عمل توخت منه أميركا ومعها «إسرائيل» أن توجه رسائل سريعة إلى الخصوم من دون أن تتسبب في الانزلاق إلى حرب شاملة في المنطقة ولهذا تم اختيار الهدف بعناية بالغة ليبقى ممكناً تفسيره بطابع سياسي حتى لا يسبب دفعاً أكيداً نحو المجابهة العسكرية الفورية .

وجهت الرسائل التي حملتها الطائرات «الإسرائيلية» المعتدية إلى الإرهابيين لرفع معنوياتهم وإلى الخصوم لتحذيرهم من المتابعة. فقد شاءت جبهة العدوان رفع معنويات المسلحين التي انهارت إثر الخسائر التي تكبدوها في حلب ودير الزور وسواهما، ولتؤكد لهم بأن «إسرائيل» بقواتها حاضرة لنجدتهم ودعمهم وعليهم المتابعة. وفي الوقت نفسه أرادت تلك الجبهة توجيه تحذير إلى الجيش السوري ومن ورائه محور المقاومة وداعميه الدوليين بخاصة روسيا لحملهم على تجميد الحراك السياسي خارج الفلك الأميركي وإلزامهم بعدم متابعة الضغط على الإرهابيين عسكرياً.

لقد استجابت «إسرائيل» للإيحاء الأميركي بتوجيه الضربة الجوية مواكبة مع تعيين صديقها وزيراً للدفاع في أميركا لأنها رأت في الأمر مصلحة أكيدة لها أيضاً خاصة بالنسبة لنتانياهو شخصياً، الذي انهارت حكومته وعجز عن تأمين البديل ما أجبره على الذهاب إلى انتخابات مبكرة يعول عليها للحصول على حجم نيابي يتيح له إنشاء ائتلاف مريح لتشكيل الحكومة، فاتخذ من صواريخ طائراته صفارة لبدء معركته الانتخابية بقوة نارية.

لكن نتائج الانفعال الناري جاءت كما يبدو خلافاً لما توخى المعتدون إذ وقبل الرد العسكري الذي سيكون بما يؤلم «إسرائيل» وهو أمر آتي لا بد منه وتعرف «إسرائيل» ذلك وبدأت تتحضر وتحسب الحسابات له فقد كان الرد الأولي والسريع من المصادر الثلاثة التي وجهت إليها الرسائل الصهيو أميركية بالطائرات «الإسرائيلية»، حيث أكدت سورية قرارها بمتابعة ملاحقة الإرهاب حتى اجتثاثه، وأن لن يثنيها عن ذلك ضغط أو تهويل أو عدوان، وأكدت روسيا رفضها للعدوان «الإسرائيلي» غير المقبول وكثفت مساعيها في إطار المبادرة السياسية التي تعمل عليها لحل الأزمة في السورية، أما الرد الأعنف فقد جاء من محور المقاومة مجتمعاً في طهران حيث كان الاجتماع الثلاثي الذي ضم إيران وسورية والعراق والذي خطا خطوة استراتيجية بالغة التأثير سترخي بظلالها على مسار الأحداث والحركة في الشرق الأوسط كله، خطوة تمثلت بمأسسة العمل ضد الإرهاب والإرهابيين وبناء المنظومة القوية من الدول الثلاث المذكورة والمنفتحة لقبول أعضاء آخرين بخاصة لبنان الذي هو عبر حزب الله حاضر فاعل في هذه المنظومة حتى ولو لم يعلن الانضمام الرسمي للبنان إليها.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى