النصر الروسي المزدوج
خضر سعاده خرّوبي
حط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رحاله أخيراً في أنقرة. وقد حظيَت زيارته تلك بمتابعة واهتمام غير مسبوقيْن، في وقت يقف فيه البلدان على طرفي النقيض من قضايا إقليمية ودولية متعدّدة. وركزت أغلب التحليلات على القاسم المشترك الاقتصادي بينهما، فتركيا المتطرفة في مواقفها السياسية تقارب قضاياها الاقتصادية بجانب من الهدوء و»الواقعية»، وعلى رغم خلافاتها السياسية العميقة مع طهران في ساحات التوتر في الشرق الأوسط، إلا أنها لم تشكل ذلك العائق لها في برنامجها النووي، بل على العكس شكلت إلى حدّ ما «بوابة حلّ» لمشاكل إيران مع العقوبات الدولية المفروضة عليها أمميّاً وغربياً.
والحال نفسها تنطبق على واقع العلاقات الروسية ـ التركية التي خالفت توقعات البعض بإمكان تحوّل الأزمة السورية إلى مادة توتر تطيح بالعلاقات المتنامية بين البلدين، على المستوى الاقتصادي طبعاً.
فعلى هذا الصعيد، حاول الطرفان تحييد مساحات الجدال السياسي في خصوص المنطقة والاتفاق على فرض «منطقة عازلة» بين نارها وبين ملفات التعاون الثنائي بينهما. وبالنسبة إلى روسيا التي تواجه عقوبات اقتصادية غربية، فإنها تحاول، بحسب البعض، الاقتداء بالتجربة الإيرانية حول نظرية «الاقتصاد المقاوم» في مواجهة العقوبات التي قد تتصاعد تدريجياً، وهو ما تتحسّب منه موسكو وتستعدّ له، خصوصاً بعد تراجع أسعار النفط، ولا أدلّ على ذلك من جملة خطوات قامت بها على صعيد الموازنة العامة وسوق العملات أخيراً، إضافة إلى مؤشرات لجوئها إلى استخدام «ورقة» احتياطاتها النقدية الضخمة.
في هذا المجال، لا تجد روسيا بدّاً من تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع جوارها من «الحلفاء الاستراتيجيين» مثل إيران والصين والهند، ومن «شركائها الخصوم» كتركيا. فبعد أن فرضت حظراً على تصدير بعض السلع إلى أوروبا ردّاً على عقوبات الأخيرة وواشنطن ضدّها، تحاول روسيا التعويض بفتح أسواق جديدة لصادراتها وتعزيز تبادلاتها التجارية الخارجية في الاتجاهين.
وفي ملف العقوبات الغربية ضدّ روسيا، من غير المستبعد لدى البعض أن تلعب تركيا دور «المُنقذ» و»المَنفذ» لها، على غرار الدور الذي اضطلعت به لمساعدة طهران على التفلّت من بعض تداعيات العقوبات الدولية عليها. ولا يغيب عن ذهن الروس أهمية تطوير التعاون النووي السلمي مع «الجار اللدود» لما له من انعكاسات اقتصادية واستراتيجية تفتح الباب أمام علاقات تعاون طويلة الأمد بينهما.
أما تركيا، فهي تخشى من الآثار الاقتصادية للخلاف السياسي، لا سيما مع موسكو، بعدما عايشت جراح تلك التجربة المريرة في كلّ من ليبيا وسورية جرّاء «جنوحها الثوري» في أحداث ما بات يُعرف بـ»الربيع العربي»، الذي نتج منه تضعضع في «ربيع اقتصادي» شهدته لسنوات هناك. فتركيا ترتبط مع موسكو باتفاقات اقتصادية تتعلق في شقها الأكبر بمجال الطاقة، كخطط بناء مفاعلات نووية، و»مشروع ساوث ستريم» وما يتيحه وسواه من المسارات المقترحة من فرص لتبوّئها مكانة أوكرانيا كعقدة عبور أساسية «طاقوية» باتجاه أوروبا.
ويرى البعض في تعزيز هذا المسار، وفي هذا التوقيت بالتحديد، ما يدعم التصوّر حول إجراء عقابي ما يشهره الكرملين في وجه السلطات الجديدة في كييف الطامحة غرباً. ومنذ اندلاع الأزمة السورية كانت علاقات البلدين تحت المجهر لحجم الهوة والفارق بين المواقف لدى كلّ منهما في هذا الخصوص. ولا أحد ينكر حجم الخلاف التاريخي و»الميراث غير الودّي» في علاقات الطرفين تاريخياً. ولا ينسى أحد ما كانت تتناوله الصحف الروسية في بدايات الأزمة السورية عن الضغط الذي باتت تشكله الأخيرة على ملف العلاقات التركية ـ الروسية، وما كان يتضمّنه بعضها من تحذيرات لأنقرة كي لا تجنح في سياساتها في سورية وتنحو منحى يدخلها المحظور روسياً.
حقيقة الأمر، وعلى رغم التباين الحادّ الذي طبع مواقف الطرفين حول الأزمة السورية، فإنّ ذلك لم يصل إلى حدّ استفزاز روسيا، وما يثبت ذلك هو عدم وصول العلاقات التركية ـ الروسية جراء ذلك إلى مستوى الأزمة السياسية التي عصفت بها على خلفية الأزمة الجورجية، وقبل ذلك عندما وافقت على استضافة أجزاء من الدرع الصاروخية الأطلسية على أراضيها. وهذا ما يفسّره المحللون بأنّ تركيا عملت بـ»نصائح» موسكو وأخذت بتحذيراتها على محمل الجدّ في خصوص سورية.
وانطلاقاً من كلّ هذا، لا مناصّ من القول بأنّ الرئيس بوتين، ومن خلال زيارته الأخيرة إلى أنقرة، قد حقق نصراً مزدوجاً لبلاده وسياستها الخارجية. فهي قد حافظت، لا محالة، على موقفها الثابت والمبدئي من سورية، كما احتفظت في الوقت عينه بقدر من «البراغماتية» يضمن لها بقاء المسار التصاعدي لعلاقاتها الاقتصادية مع الأتراك، بمنأى عن أية تداعيات قائمة ومحتملة ترتبط بالتباينات السياسية بين الطرفين، وما أكثرها حتى الساعة.
وفي ظلّ التصعيد السياسي والاستراتيجي الحاصل والمرتقب بين روسيا والغرب، يبقى القول إنّ تدعيم الاقتصاد يمثل حاجة ضرورية للروس كجزء من مقوّمات الصمود وعدم الانكسار في حرب الإرادات التي لا تزال باردة، ويُخشى ألا تبقى كذلك لوقت طويل.