«يوتوبيا» متسامية نظريّاً لا تنزل إلى أرض الواقع 12

جورج كعدي

كتّاب كبار كثر ناهضوا «اليوتوبيا» وخاضوا معركة الفرد ضدّ الدولة، بل وضع بعضهم «يوتوبيّات» نقدّية ساخرة ورؤى حول عالم مستقبليّ فقد فيه الإنسان تماماً الإحساس بتفرّده ومجتمعات كاملة أضحى فيها البشر آلات ذات مستوى عالٍ من الكفاءة لكنّهم عاجزون عن اختبار أيّ عاطفة قويّة. من هؤلاء الكتّاب المناضلين لمصلحة الفرد ضدّ سلطة الدولة حتى «اليوتوبيّة»: جان بول سارتر وأندريه بروتون وألبير كامو وهنري ميلر وجورج برنانوس وغراهام غرين وجورج أورويل، علماً أنّ رواية هذا الأخير «مزرعة الحيوانات» 1945 لا يمكن اعتبارها يوتوبيا ساخرة.

«يوتوبيا» الكاتب الروسيّ زامياتين Zamyatin «نحن الآخرون» التي صدرت في نهاية العشرينات لا تاريخ محدّداً لصدورها تعتبر «يوتوبيا» مضادّة ذات رؤية مستقبليّة، إذ يصف كاتبها مجتمعاً مفترضاً بعد ألف عام على نشوء الدولة الوحيدة التي تحكم العالم بأسره، وعشيّة الاستعداد لغزو الكون كلّه بفضل آلة مرعبة يمكن إطلاقها إلى الكواكب الأخرى. والحياة في هذه الدولة الوحيدة منظّمة بدقّة رياضيّة، وكل شيء فيها تحوّل إلى معادلات رياضيّة، والرجال والنساء جميعاً يعلّقون لوحاً ذهبيّاً لافتاً يحمل أرقامهم: «ليس في المجتمع عضو واحد، بل واحد بين كثيرين» أو «واحد من…» لأنّنا متشابهون إلى حدّ بعيد. والدولة يحكمها «فاعل الخير»، ووكلاؤه أو «حرّاسه» هم ملائكة حارسون مطّلعون على كلّ حركة بل وكلّ فكرة تدور في رأس أيّ مواطن، إذ يضطلعون في الوقت نفسه بدور الكاهن الذي يتلقّى الاعتراف ودور الجاسوس ودور الشرطيّ المخبر.

في عالم زامياتين حلّ جدول المواعيد مكان الأيقونة التي تعلّق في كلّ غرفة، فالعمل، والأكل، والنوم، والمعاشرة الجنسيّة نظّمت جميعاً تنظيماً صارماً في جدول المواعيد. ولا شيء مما يسمّى بالحياة الخاصة للفرد، ولا يقتصر انتهاك تلك الحرّية على فتح بريده قبل وصوله إليه، أو إلزامه بأن يقدّم إلى الحرّاس تقريراً عن أيّ أمر غير عاديّ، بل ثمّة جهاز سمعيّ يُخفى في طريقه بارعة ويسجّل لمكتب الحرّاس جميع الأحاديث التي تدور في الشارع! وسُهّلت مهمّة الحرّاس إلى أقصى حدّ إذ بنيت المنازل من جدران زجاجيّة تمكّنهم من رؤية ما يحصل في كلّ شقّة سكنيّة! ويُسمح بإنزال الستائر في الساعة المحدّدة للمعاشرة الجنسيّة فحسب! وتتمّ الحياة الجنسيّة وفق مبادئ علميّة، فـ»المكتب الجنسيّ» يحلّل هورمونات كلّ مواطن وينظّم جدول الأيّام المخصّصة للجنس. ويعلن الشخص بعد ذلك أنّه ـ أو أنّها ـ يريد ممارسة الجنس عدداً معيّناً من المرّات، ويسلّم إليه ـ أو إليها ـ كتيّباً فيه تذاكر ورديّة اللون تسمح كلّ تذكرة منها بساعة واحدة للمعاشرة الجنسيّة، وهذه التذكرة الورديّة يمكن استخدامها لأيّ عدد، فالمبدأ المعمول به هو أنّ الواحد للجميع والجميع للواحد. ولا يُسمح للنساء بإنجاب الأطفال إلاّ إذا توافرت فيهن مستويات معيّنة، وإذا لم يطعن التعليمات يحكم عليهنّ بالموت!

يستتبّ الأمن والاستقرار في «عالم طريف شجاع» لألدوس هاكسلي Huxley بوسائل أفظع من وسائل زامياتين، فثمّة أوّلاً عمليّة التخليق الاصطناعي لأطفال الأنابيب، ثم التكييف الشرطيّ عن طريق الـ»هيبنوبايديا» Hypnopaedia أيّ تلقين التعاليم الأخلاقيّة أثناء النوم، والتطويع البافلوفي الجديد للأفعال المنعكسة لدى الأطفال، واستخدام الـ»سوما» Soma للراشدين وهو الدواء العجيب الذي يشفي من جميع أمراض السخط وسوء المزاج والاستياء أو المرارة… والنتيجة أنّ وسائل التصحيح والتقويم قد تكون أكثر اعتدالاً ممّا هي عليه في «دولة» زامياتين الفريدة، فليس ثمّة أدوات تعذيب أو جلاّدون لدى هاكسلي، والمذنبون في حقّ الدولة يُرسلون إلى جزيرة نائية حيث يعيشون حياة كئيبة، ويُقمع المتمرّدون باستنشاق غاز الـ»سوما»!

نجح كلٌّ من زامياتين وهاكسلي على نحو رائع في سخريتهما من السعادة الإجباريّة التي تفرضها الدولة الشموليّة، لكنّهما بدلاً من أن يطالبا بحقّ الإنسان في السعادة الحرّة التي يمكن أن تتأتّى من تعبيره عن شخصيّته، نراهما يطالبان بحقّه في المعاناة، وتحت انتقاداتهما لـ»اليوتوبيا» تكمن فكرة أنّ المعاناة والإحباط ضروريّان للإبداع، وأنّ الروح تحتاج إلى أن تعذّب، ويتمنّيان العودة إلى الماضي، أو حتى إلى الراهن، أيّ إلى إيمان البشر بفكرة التكفير ونظرتهم إلى الحب الجسديّ بكونه خطيئة، وإلى الغيرة والطموح وسواهما من الانفعالات الوضيعة التي تحضّ الإنسان على الفعل.

«يوتوبيّات» القرن التاسع عشر التسلطيّة هي المسؤولة أساساً عن الاتجاه «اليوتوبيّ» المضادّ لدى كتّاب ومثقفين لاحقين. بيد أنّ «اليوتوبيّات» لم تصف دوماً مجتمعات شديدة التنظيم والانضباط ودولاً مركزيّة وأمماً مكوّنة من «روبوتات». كانت «اليوتوبيّات» غالباً خططاً ومشاريع لمجتمعات تعمل على نحو آليّ، وبنيات ميتة تصوّرها اقتصاديّون وسياسيّون وأخلاقيّون، بيد أنها كانت كذلك أحلاماً حيّة للشعراء. انتهى

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى