من الحكمة أن تنقل سورية الحرب إلى خارج أسوارها
محمد شريف الجيوسي
يتذاكى البعض بالقول زاعماً، لقد أشبعتنا سورية كلاماً، حدودها الأكثر أمناً مع الكيان الصهيوني، لم تشهد اشتباكاً منذ 42 سنة، وهي تردّ دائماً بالقول نحتفظ بحقّ الرد ولكن من دون رد، تقاتل الكيان الصهيوني إن قاتلته بدماء غيرها من فلسطينيين ولبنانيين وغيرهم، وتتسيّد نضالات الآخرين وتقطف الثمار.
هكذا هي فلسفة المنظرين للإساءة لسورية وتبرير عمالة البعض أو غض النظر عنها، عندما لا يجدون ما يدافعون به عن حلفاء أميركا والمتعاقدين مع الكيان الصهيوني، وتفنيد ذلك يبدو معقداً لدى بسطاء الناس.
لكن استراتيجيي الحروب يعلمون أن بديهية الحرب الأولى وقاعدتها الذهبية، هي ألا تجعل عدوك يفرض عليك مكان وزمان الحرب وأدواتها وآلياتها، وإنما أن تنقل إليه حربك إلى خارج جدرانك إلى خلف جدرانه، وبالطريقة التي لا تجعله يستثمر مزايا التفوق لديه، وتتيح لك استثمار عناصر التميز لديك، بنقل الحرب إلى خارج أسوارك، ومد من أنت وإياهم في الخندق ذاته وعلى سفينة واحدة بما يحتاجون إليه من عناصر القوة والردع بل والتفوق العسكري التكتيكي والاستراتيجي. وهو ما حدث ابتداءً من ثمانينات القرن الماضي، وتجسدت ثماره عام 2000 وما تلاه، وما استتبع من إعادة نظر في العقيدة العسكرية السورية منذ عام 2006، وليس بالضرورة أن تخرج سورية على وسائل إعلامها متفاخرة شارحة تلك العقيدة المتجددة لإقناع المشككين بوجهة نظرها العسكرية الاستراتيجية، وليس من الحكمة إعلان كل شيء، فيما تفعل وما لا تفعل.
لكن من العدل والحصافة والحكمة والموضوعية ملاحظة نتائج ما يحدث على الأرض المحتلة من انهيار معنويات المؤسسة العسكرية الصهيونية على توالي الـ 15 سنة الأخيرة، وإدراك من أسهم ويسهم في تحقيق ذلك، وإسقاط قاعدة تمكين العدو من استثمار عناصر التفوق العسكرية لديه.
وقبل ذلك خاضت سورية بالاشتراك مع مصر حرب تشرين، وبمساهمات عسكرية رمزية من غير دولة عربية، إلا العراق الذي شارك بقوة عسكرية كبيرة، لكن تخاذل السادات ووقفه الاشتباك العسكري مع الكيان الصهيوني من دون تنسيق مع مصر، غير قواعد الحرب، وأتاح لـ «إسرائيل» تركيز حربها على الجبهة السورية، بعد أن كادت سورية تنجز تحرير الجولان السوري وقد وصلت بحيرة طبريا، وكان من الممكن لولا خذلان السادات لسورية ربما تحقيق ما هو أبعد من ذلك، بمشاركة العراق، وهكذا تغيرت حسابات الاستمرار في الحرب وتوقفت الحرب بمعناها الشامل واضطر العراق إلى سحب قواته، لكن سورية استمرت في حرب استنزاف ضد العدو الصهيوني، ما يذكّر بحرب الاستنزاف التي خاضتها مصر عبد الناصر، ضد «إسرائيل».
وما ينبغي إدراكه هنا أن الحرب التقليدية مع «إسرائيل» غير مجدية من دون حشد عربي واسع تشارك فيه عوامل الاقتصاد والنفط أيضاً.
وفي أعقاب حرب تشرين، رفضت سورية التوصل إلى معاهدة سلام مع الكيان الصهيوني وبعد مفاوضات معقدة، جرى التوصل إلى اتفاق فك ارتباط استعادت سورية بموجبه جزءاً من الجولان بما في ذلك عاصمته مدينة القنيطرة. ورفضت سورية عقد معاهدة سلام منقوصة مع العدو الصهيوني في بداية تسعينات القرن الماضي، لا تعيد ولو متراً واحداً من الجولان، حتى مياه بحيرة طبريا.
وخاضت سورية عام 1982، حرباً دفاعية عن لبنان، شعباً ومقاومة فلسطينية، عندما حاصرت «إسرائيل» العاصمة اللبنانية بيروت، وفي البقاع خاضت سورية حرباً كبيرة معروفة وتكبدت خسائر معروفة، في ظل تفاوت في القدرات العسكرية، وهو ما يؤكد إشارتنا إلى أنه لا ينبغي أن يفرض العدو عليك قواعده في القتال، مكاناً وزماناً وأدوات وآليات.
لكن سورية تداركت ذلك لاحقاً وأدركت أن حماية لبنان من الكيان الصهيوني وأدواته وعملائه الداخليين لا يكون بمواجهات عسكرية تقليدية وإنما بخلق مقاومة لبنانية محلية بحتة، لا تعطي العدو وعملاءه مبررات شن حرب شاملة عليه، وهكذا تولدت المقاومة اللبنانية عبر تدرجات استقرت على ما هي عليه، ملحقة به هزائم متتالية، عجزت المعطيات السابقة عن إلحاقها به، وهو ما استفادت المقاومة الفلسطينية من دروسه، لاحقاً.
وكانت سورية الداعم الأول للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية وأيضاً لتمرير ما يلزمهما إليهما، ومن هنا شهدنا على مدى الـ15 سنة الماضية بتوجيه الإنذارات أولاً ثم بالقرارات الأميركية وأحياناً الدولية بحصارها ومعاقبتها ومحاولات شيطنتها واستيعابها بالتضليل والتوريط من خلال وكيلي الناتو وواشنطن والاتحاد الأوروبي، قطر وتركيا الانكشارية… ولما فشل ذلك كله، كان لا بد من وجهة نظر من سبق ذكرهم، شن الحرب الدولية عليها، ولاستكمال الانتصارات الموقتة التي حققتها قوى الردة في غير ساحة عربية تحت مسميات «الثورة» و»الربيع العربي».
والسؤال الذي ينبغي أن يوجه لمتهمي سورية ومن هم خلفهم، ماذا صنع نظام عربي تحتل جزره في البحر الأحمر منذ عقود، ولا يشير إليها حتى مجرد إشارة خجولة، أو يذكّر بأنها جزء من ترابه الوطني، وكذلك أراض تتبع لدولة مغاربية ما زالت محتلة من قبل دولة أوروبية، وغير ذلك.
المشككون يتجاهلون أن سورية تخوض الآن وعلى مدى قرابة 4 سنوات حرباً على 26 ألف بؤرة ساخنة من بينها 600 بؤرة ساخنة في ريف دمشق، هل تشن هذه الحرب على سورية ويشارك فيها مرتزقة من بقاع الأرض الأربع دفاعاً عن الديمقراطية والحرية والعدل في سورية، تمولها دول لا علاقة لها بكل ما سبق، حتى أميركا التي يقال إنها قلعة الديمقراطية ما زالت مزروعة بالعنصرية، وأريافها مليئة بمليشيات عنصرية مسلحة، ويجوز فيها التنصت على المكالمات والاعتقال على لون البشرة وبمجرد الشبهة كأكثر البلدان الأكثر تخلفاً.
لا بد من أن في سورية أخطاء ونواقص ومستوجبات إصلاح وتغيير، وهو ما تقر به الدولة الوطنية السورية وبدأت في تحقيق إصلاحات متدرجة، منذ بداية العقد المنصرم، وتكثفت الإصلاحات في السنوات الأخيرة، لكن المتآمرين على سورية ليست غايتهم تحقيق ذلك، بل على العكس يريدون سورية المستقلة بقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، خراباً صفصفاً، ودرساً لكل من يتجاوز واشنطن والغرب وتل أبيب، ولا يلتزم مصالحهم وينفذ مطامعهم.
وأكثر الناس حديثاً عما يقولون أن سورية لم تفعله، هم أكثر الناس افتقاداً لما يطالبوا سورية بتحقيقه، هم من سعوا إلى الإضرار بالمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وهم أكثر الداعمين للجماعات الإرهابية التكفيرية الوهابية الإخوانية المتخلفة، في سورية وفي العراق وليبيا واليمن وسيناء وتونس، بل وفي مالي والنيجر، وهم الأكثر اضطهاداً لمن يخالفهم الرأي في بلدانهم وللمرأة وللأقليات الدينية، وهم أصدقاء واشنطن وباريس ولندن وبون وتل أبيب.
لهؤلاء نقول: «عشقكم» هذا المليء بالكراهية احتفظوا به لأنفسكم، وتفرغوا لحل مشكلاتكم الداخلية المتفاقمة، واتركوا لسورية وسائر الشعوب العربية وغير العربية الحرية في حل مشكلاتهم إن وجدت، وفق مصالحهم.