المطلب الاجتماعيّ حقٌّ وأولويّة
جورج كعدي
آفات مجتمعنا مزمنة، كذلك مطالب فئاته محدودة الدخل التي تشكّل الغالبيّة المطلقة وتنهض بمقوّمات الوطن وترفد اقتصاده إنتاجاً واستهلاكاً على السواء، وبالتالي ينبغي أن تبنى تبعاً لمصالحها النظم الاجتماعية والاقتصادية والإنتاجية والخدمتية كافة، لا تبعاً لمصالح الإقطاع الماليّ والسياسيّ وجماعة الاحتكار والثروات الكبرى.
أمّا الآفات فباتت معلومة وتشبه اللازمة المتكرّرة، بل يُخشى أن تكون تحوّلت إلى «كليشيهات» أو شعارات تُرفع باستمرار ولا تلقى ردّ فعل أو صدى، علماً أن المثل يقول «لا يموت حقّ خلفه مُطالب»… إلاّ في لبنان، معقل الفساد والمفسدين مثل جميع الدول المتخلّفة ، فالحقّ فيه يموت ولو كان خلفه مليون مطالب! ورغم معرفة الجميع بالآفات تلك، ربما يفيد في هذه العجالة التذكير بأفدحها:
ـ النظام الطائفيّ القائم على المحاصصة الطائفيّة في مناحي الحياة كلّها، العامة والخاصة… في السلطة السياسيّة والإدارة الرسميّة والقطاعات التربويّة والصحيّة والقضائيّة، في الوظائف والتعيينات، في التلزيمات والمناقصات، في صناديق التنمية والإغاثة، إلخ… محاصصة وتقاسم وتوزيع مغانم يتواطأ فيها المستولون على السلطة بفضل تفويض شعبيّ غبيّ عماده الطائفيّة والاقطاعيّة المحليّة الضيّقة ضدّ الشعب ومصالحه، على نحو متمادٍ وموروث عبر زعامات طائفيّة، إقطاعيّة أو عائليّة، أو كلا الأمرين معاً.
ـ الفساد في الدوائر السياسيّة والإداريّة، حيث السرقة والاختلاس والهدر والرشوة والمخالفات الفاضحة للنظم والقوانين، بل حتى لدستور الدولة نفسه.
ـ المركزيّة الإداريّة الخانقة والمركّزة التي لا تسهّل شؤون المواطنين ومعاملاتهم، بل تذلّهم بالتأجيل والانتظار والبيروقراطية وصلافة التعامل وعدم الاحترام، بحيث يشعر المواطن بأنّه مهان في المكان الملزم بتسيير أموره ومعاملاته، وقد يحصل على ذلك إذا كان الموظّف المسؤول يتلقّى رشوة، عندئذٍ يسير كل شيء بسرعة قياسيّة!
ـ غياب التنمية في المناطق، وفي مختلف القطاعات الإنتاجيّة الأساسيّة زراعة، صناعة، خدمات… وفي البنى التحتية الحيويّة والأساسيّة لأيّ مجتمع، كالكهرباء والهاتف والمواصلات والطرق الحديثة، إلخ.
ـ عدم اعتماد مؤشّر غلاء المعيشة لرفع الحدّ الأدنى للأجور على نحو منطقيّ متوافق مع ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائيّة.
في المقابل، هل مطالب الناس، بشكل أساسيّ، أكثر ممّا سبق؟ أليست مطالبهم توفير الرواتب والأجور المنطقيّة، لأفراد القطاعين العام والخاص، كي يعيش الموظف والعامل والأجير حدّاً أدنى من الحياة الكريمة، هو وعائلته، ويحصل على الخدمات البديهيّة التي على الدولة تأمينها لمواطنيها، من كهرباء وماء ومواصلات وضمان اجتماعيّ للجميع ونظام استشفاء مقبول للفئات الفقيرة والمتوسّطة وضمان شيخوخة ومشاريع إسكان لذوي الدخل المحدود، إلخ؟ مطالب محقّة، غير قابلة للجدال أو السجال، تضاف إليها اللامركزيّة الإداريّة لتيسير معاملات الناس وإعفائهم من الانتقال من المناطق البعيدة والنائية إلى المركز الإداريّ في العاصمة، فضلاً عن محاربة الفساد والرشوة في الإدارة، والوزارات، ومنع الاحتكار ومحاربة المحتكرين، ووقف هدر مال الشعب والسرقة والفساد عامّة.
الجانب الاجتماعيّ بالغ الأهميّة وجوهريّ، بل مصيريّ، في حياة الوطن والأمّة. فلنستعد ما قاله الرائد والرائي النهضويّ الكبير أنطون سعاده في هذا الصدد، ولنذكّر به في هذه المرحلة، علّه يهدي البعض ويلهمهم، فسعاده كان رجل عدالة اجتماعية أيضاً وأيضاً. يقول في مناسبات ومواقع متفرّقة:
«النهضة السورية القومية ترى أنّ الإقطاع مصيبة كبيرة من مصائب الأمّة السورية تضاهي مصيبة التحزّبات الدينية، وأن الامتيازات المدنية الموروثة من حالة الإقطاع القديمة هي حجر عثرة في سبيل الوحدة القوميّة التامّة وصدع في بناء الدولة القوميّة المتينة. ولمّا كان من الواجب إلغاء الإقطاع وإزالة الامتيازات المدنية للوراثات الإقطاعية كان لا بدّ من إلغاء جميع مظاهر الإقطاع وامتيازاته. والألقاب الإقطاعية هي من جملة هذه المظاهر التي يجب أن تمحى عن وجه الأمّة السورية … إنّ آفة الإقطاع من الوجهة الاجتماعيّة والحقوق المدنيّة من أشدّ الآفات المنعة الأمّة من النهوض، فإن حالة ألوف عائلات الفلاّحين في المناطق الإقطاعية في لبنان والعلويين وجبل حوران والشام وفلسطين في حالة فاقة وضعف في الجسوم وفي النفوس وغباوة في العقول تدعو إلى أشدّ الأسف. والأمّة التي يكون ثلاثة أرباعها في حالة عبودية لا يمكنها أن تقف وتثبت بين الأمم الحرّة … ». من المجموعة الكاملة، الجزء السادس، تحت عنوان «انهيار دولة الألقاب»، الزوبعة، بونيس آيرس، العدد 38، 15/2/1942 .
«إنّ في سورية إقطاعات حقيقية تؤلّف جزءاً لا يستهان به من ثروة الأمّة ولا يمكن بوجه من الوجوه حسبانها ملكاً شخصياً، ومع ذلك فهي لا تزال وقفاً على «بكوات» إقطاعيين يتصرّفون بها أو يهملونها كيفما شاؤوا، مهام كان في ذلك من الضرر للمصلحة القوميّة، ومنهم فئة تهمل هذه الإقطاعات وتغرق في سوء التصرّف بها إلى حدّ يوقعها في عجز ماليّ ينتهي بتحويل الأرض إلى المصارف الأجنبيّة، الرأسمال الأجنبيّ، البلوتكراطيّة الأجنبيّة، والحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ يعتبر أنّ وضع حدّ لحالة من هذا النوع تهدّد السيادة القوميّة والوحدة الوطنيّة أمر ضروريّ جدّاً» من المجموعة الكاملة، الجزء السابع، تحت عنوان «كتاب التعاليم السوريّة القوميّة الاجتماعية» .
«إن الإقطاعات كثيراً ما يكون عليها مئات وألوف من الفلاّحين يعيشون عيشة زريّة في حالة من الرقّ يُرثى لها، وليست الحالة التي هم عليها غير إنسانيّة فحسب، بل هي منافية لسلامة الدولة بإبقائها قسماً كبيراً من الشعب العامل والمحارب في حالة مستضعفة، وخيمة العاقبة على سلامة الأمّة والوطن، فضلاً عن إبقائها قسماً كبيراً من ثروة الأمّة في حوزتها وفي حالة سيئة من الاستعمال. إن الحزب السوريّ القوميّ لا يستطيع السكوت على هذه الحالة … إذا تُرك للفرد الرأسماليّ حرّية مطلقة في التصرّف بالعمل والإنتاج، كان لا بدّ من وقوع إجحاف بحقّ العمل وكثير من العمّال. إنّ ثروة الأمّة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمّة العامّة وضبط الدولة القوميّة»، من المجموعة الكاملة، الجزء الثاني، تحت عنوان «مبادئ الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وغايته»، مشروحة بقلم الزعيم .
«ليس العمّال عبارة عن مواد بشرية تتحرّك بصورة آلية لغرض واحد هو تتميم العمل، بل هم أفراد من مجتمعهم الذي يحيون فيه ويقاسمون أبناء مجمتعهم مزايا البيئة ومواهب الشعب، ويحملون معهم البلايا النائبة والمصائب الحالّة، ويأخذون من أفراح الأمّة ويعطون. فالعمّال في الأساس قوميّون يحدث لهم ما يحدث لأبناء قومهم من تذوّق طعم الأجنبيّ وتُستهدف مصالحهم الاجتماعية الفرعية للأخطار عينها التي تُستهدف لها المصالح القوميّة الأساسيّة، فهم وأبناء قومهم متّحدون في مصير واحد هو مصير الأمّة». من المجموعة الكاملة، الجزء الثاني، تحت عنوان «العمّال»، النهضة، بيروت، العدد 25، 11/11/1937 .
المطلب الاجتماعيّ حقّ وأولويّة، للإنسان والوطن والأمّة.