غاز لبنان… جريمة مجهولة ومجرم مجهول!
نسيب ابو ضرغم
ما أعلنه الرئيس نبيه بري، حول سرقة الكيان الصهيوني الغاز اللبناني، كان صرخة لا بد منها، ولكن ينبغي استكمالها بالكشف عن ملابسات جريمة الغاز وتفاصيلها.
نقول ذلك لأننا لم ننسَ بعد جريمة مياه لبنان التي ارتكبت في ستينات القرن الماضي، عندما أطيح مشروع ري الجنوب، ومعه مشاريع المياه على كامل المساحة اللبنانية، إضافة إلى إطاحة حياة المهندس الفذ الشهيد ابراهيم عبد العال.
من النكبات العديدة التي يعيشها لبنان، تحريم الكشف عن الجرائم، وتجريم الكشف عن فاعلها، وإشغال اللبنانيين بالتالي بنتائج الجريمة وإغراقهم في تداعياتها، تماماً مثلما هو حاصل الآن في جريمة تسليم عناصر قوى الجيش والأمن الداخلي إلى الإرهابيين التكفيريين في عرسال.
في الستينات وقعت جريمة المياه، وفي الأمس وقعت جريمة الأسرى العسكريين، ومعها جريمة الغاز اللبناني، فهل سنكمل على هذا المنوال؟ أَلَم يحِنْ الوقت بعد لنسمي الأشياء بأسمائها؟ أم أن هذه «الأمور» هي أكبر من الشعب والوطن؟
لو طبّق لبنان في الستينات من القرن الماضي مشاريعه المائية المُعدّة والناجزة في الدراسات لجعل من مائه ثروة مستدامة لا تنضب، فوفر على مدى نصف قرن مليارات كثيرة من الدولارات، لشراء الفيول وبناء المصانع العاملة على الفيول والغاز، عبر استبدال ذلك بالسدود والطاقة المنتجة من الماء، إضافة إلى الثروة المتعاظمة في الزراعة والسياحة، ناهيك عن نظافة البيئة.
لماذا مُنع لبنان من ذلك؟ هل صحيح أن الاختلاف على منسوبي 600 م والـ 800 م هو السبب؟ وأي مجنون يصدق ذلك؟
لنتصور فداحة الخسائر التي نزلت بالاقتصاد الوطني من جراء عدم تطبيق مشاريعه المياه، ألا يعتبر ذلك في سبيل كشف الجريمة والمجرم سبباً ملحاً وضرورياً؟
لماذا نترك أنهارنا تصب في البحر شتاءً ونجبر اللبنانيين على شراء مياههم من حساب قوت أولادهم؟ لماذا نترك أرضنا عطشى فيما مياهنا تتدحرج إلى البحر؟
يمكن للدولة أن تبني معامل الكهرباء العاملة على الفيول أو الغاز ولا يمكنها أن تبني سداً واحداً؟! وفي الجواب عن السؤال ولماذا لا تبني، تكمن تفاصيل الجريمة.
في الشوف، وفي بلدة كفرنيس، بنى الفرنسيون في الثلاثينات من القرن الماضي بركة حقنوا فيها المياه وولدوا منها طاقة كهربائية ولا تزال حتى اليوم تغذي عدداً من قرى المنطقة. ألم يكن في استطاعة دولة الاستقلال أن تبني العشرات من مثل هذه البركة؟
لماذا لا تلجأ الدولة إلى الاكتتاب الشعبي مثلما فعلت بريطانيا وفرنسا حينما قررتا حفر نفق بحر المانش؟ لماذا لا تترك الشعب يمتلك اقتصاده؟ وهل يَعلم المسؤولون عندنا أنه من أصل كل خمسة أميركيين ثمة أميركي مكتتب في المشاريع الأميركية الاقتصاد الأميركي فإذا كانت الحجة نقص المال فلماذا لا نلجأ إلى الشعب، نبني السدود ونقيم المشاريع ونملّك اللبنانيين اقتصادهم بدلاً من أن تمتلكه المافيات؟
لم يفعلوا، ولن يفعلوا، منذ 1943. هُم هُم، يتناسلون بالجينات ذاتها، ومثلما فعل الأوائل سيفعل الأواخر! وهل الدولة للشعب أم للمافيات؟ أربعة عشر نهراً تصب في قلب البحر، وعشرات الأنهار تصب على سطحه، وأربعة ملايين لبناني عطشى، أرضهم بور، وليس أمامهم إلاّ الهجرة، فيما ثرواتهم التي حبتهم إيّاها الطبيعة هامدة، محجوز عليها، يلتهمها الوحش اليهودي الذي يغذي صراعاتنا ويلهينا بجهلنا وسخافاتنا، يُغرقنا في دمنا كي تصبح ثرواتنا خارج وعينا وتحت قبضته.
هكذا كان مصير مياهنا ولم يَزَل، وهكذا سيكون مصير غازنا، إذا سلكنا المسلك ذاته.
ماذا يعني استثمار غازنا؟ يعني نهوض لبنان من مديونيّته أولاً، ويعني ثانياً خلق تنمية اقتصادية تؤسس لنهوض علمي وتنموي شامل، ويعني امتلاك لبنان القوة المالية التي تؤهله لأن يبني قواه العسكرية، وتعني قبل كل شيء إلغاء الفقر وهو الحاضن الملائم لجميع حركات التطرف والتدمير.
استثمارنا الغاز يمنع الوحش اليهودي من أن يتحكم في الصيرورة الأوروبية، أي في أوروبا المتشابكة بحكم الجغرافيا مع منابع الطاقة لدينا. هذه الأوروبا يريدها اليهودي بالسيطرة على غازنا خاضعة له، ليس في الاقتصاد فحسب، بل في خياراته المجرمة.
لنتصور فداحة الجريمة.
كان مطلوباً من المسؤولين عن هذا الملف إعلان الحقيقة للشعب اللبناني. اللبنانيون حتى الساعة لم يدركوا بعد لماذا التأخير في موضوع الغاز؟ إنهم يتساءلون ما إذا كانت ستتكرر جريمة المياه؟ ولمصلحة مَنْ؟ لا حكومة أوضحت، ولا وزارة أوضحت، ولا مسؤول أوضح، الجميع يستعمل أسلوب التورية، فيما غازنا يبتلعه اليهودي. غازنا أملنا في النهوض من هذه المحنة الاقتصادية ـ المالية ـ السياسية ـ الوطنية … هذا الغاز ليس على أجندة أحد.
حسناً فعل دولة الرئيس بري، لكن المطلوب حشد القوى السياسية وغير السياسية كافة خلف هذا الموضوع، وفي هذه اللحظة من تاريخنا البائس. «الإسرائيلي» لم يَعُد على شاشة التفكير عند فريق من اللبنانيين، بل صار بشار الأسد. «إسرائيل» وسرقاتها لا تستحق أن تكون قضية وطنية! بل القضية في كيف نُقوّي الإرهابيين ونحصّنهم في جرود عرسال ونسلمهم أبناءنا العسكريين تسليم اليد!
لم يشهد التاريخي السياسي في أيّ دولة من الدول، ما يشهده اليوم في هذه الدولة العجيبة، حيث مصلحة مافيا النفط فوق مصلحة الشعب فيه، ومصلحة مافيا الدواء فوق مصلحة الشعب فيه، ومصلحة الأفراد فوق مصلحة المجموع! هل يوجد في العالم دولة تختلف على ثرواتها الوطنية وتنسى هذه الثروات؟
بلى، نفطنا يُسرق، وغازنا يُسْرَق، ومياهنا تُسرق، وكله يذهب إلى جوف الحوت اليهودي. لم يبقَ إلاّ أن يعي هذا الشعب مدى بؤس مصيره، ومدى قساوة محنته، فيشفى من مخدر مذهبياته وأفيون أوهامه ويأخذ مصيره بيده، وإلاّ لن يكون مصير الغاز أفضل من مصير الماء، ولن يكون مصيره سوى حزم حقائبه وترك هذا البلد الجميل، ليتحول من قيمة في بلده إلى رقم تافه عند الآخرين.
حفظ الثروة المائية والثروة النفطية والغازية ينبغي أن يكون الموضوع، بل الهدف المشترك لجميع القوى المؤمنة بحق لبنان بثرواته، وأن يكون ذلك موضوعاً لقيام أوسع تحالف شعبي ـ سياسي ضاغط يستهدف حماية هذه الثروة.
نأمل في أن يدعو الرئيس بري إلى ذلك، وتبدأ التحركات الفعلية الضاغطة، فالمسؤولية ليست على المسؤولين بل هي مسؤولية وطنية شاملة.
لنتذكر جيداً، لن يتوقف اليهودي عن ابتلاع ثرواتنا، وسيبقى يختلق لنا من الأوهام ما يكفي لإلهائنا، هو والإمبريالية الأميركية… إنه الذئب، والمطلوب الحماية.