تقرير مجلس الشيوخ حول التعذيب… تطابق أساليبه بين أميركا و«إسرائيل»
جدل سياسي طويل واعتبارات حزبية رافقت اصدار مجلس الشيوخ ملخص تقرير حول وسائل التعذيب التي اتبعتها وكالة الاستخبارات الاميركية «منتهكة القوانين الاميركية التي تحرم التعذيب.» الملخص جاء بحجم 525 صفحة منقحة ومزيدة ومغربلة، اما التقرير الأصلي فيبلغ حجمه نحو 6،700 صفحة توثق منهجية التعذيب عقب غزو واحتلال العراق، بقي حبيس الأدراج. إعداد التقرير استغرق نحو 5 سنوات طالت عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، وبلغت كلفته 40 مليون دولار.
استثنى التقرير ولاية الرئيس اوباما من المسؤولية مما يوحي ان ادارته أقلعت عن ممارسة التعذيب، الأمر الذي ينافي الحقيقة، وأبرزها ما زال يجري من ممارسات شبيهة في معتقل غوانتانامو فضلاً عن السجون الاميركية في افغانستان والاغتيالات بطائرات الدرونز. ادارة الرئيس اوباما ملزمة قانونياً بمقاضاة المسؤولين عن التعذيب، لكنها لم تفعل ولن تفعل، وفق المعاهدات الدولية، لا سيما «اتفاقية مناهضة التعذيب» التي وقعتها وصادقت عليها عام 1994.
ساد اعتقاد قبل إصدار التقرير بلغ حدّ الإجماع مفاده ان ممارسة التعذيب كان سياسة اميركية رسمية ابان عهد الرئيس السابق.
اوضح التقرير المنقح والمعدّ بدقة حجم الممارسات البشعة التي مارسها الاميركيون، كباراً وصغاراً في سلّم هرم المسؤولية، وذلك بالرغم مما تعرّض له من فحص وتدقيق والغاء وإخفاء للهويات الرسمية، محملاً وكالة الاستخبارات المركزية المسؤولية الكاملة لتداعيات الكشف عن خرقها للقوانين الاميركية والدولية، كما يفضل البعض.
بداية لا يهمّنا تكرار سرد ما رشح من ممارسات مقيتة ومخزية بحق البشرية جمعاء، ونترفع عن استخدام مفردات ومشاهد التعذيب القاسية والمروّعة والمخلة بالكرامة الانسانية. بل الكشف عن بعض الملابسات السياسية والتداعيات المرتقبة لما بعد اليوم التالي، والاكتفاء بإقرار فريق إعداد التقرير من كبار المسؤولين الاميركيين بأنّ وكالة الاستخبارات المركزية مارست الكذب والمراوغة والتضليل لكافة الجهود الرامية للكشف عن «سياسة التعذيب الرسمية.» اذ قال السيناتور الديمقراطي عن ولاية كولورادو، مارك يودال، بصريح العبارة انّ «وكالة الاستخبارات المركزية تكذب،» في جلسة رسمية لمجلس الشيوخ. ونضيف، ان معدّي التقرير يكذبون ايضاً.
يتضح من التقرير انه يقلع عن تحميل المسؤولية لأيّ من الرسميين في الهرم السياسي، البيت الابيض والكونغرس، على الرغم من تأكيده على إطلاع الوكالة لقادة الكونغرس على «وسائل التحقيق المتبعة» فيما لا يقلّ عن 30 جلسة خاصة، شاركت فيها رئيسة لجنة الاستخبارات دايان فاينستاين ورئيسة مجلس النواب آنذاك نانسي بيلوسي، خاصة الجلسة السرية المعقودة بتاريخ 15 آذار 2005 حضرتها فاينستاين لبحث مسألة التعذيب.
تعدّد وسائل التعذيب المذكورة بالتفصيل رافقها تعدّد الإيحاءات وأساليب تضليل القارئ والعامة على السواء. حرصت الوكالة المركزية على عدم إلصاق تهمة التعذيب بها، واستبدلتها بتعبير ملطف «تقنيات الاستجواب المعززة،» يجري تداوله بشكل واسع ايحاء بأنّ الوكالة تقوم باستجواب المشتبه بهم ولا تمارس التعذيب بحقهم.
كشف النقاب عن مراكز التعذيب الموزعة على عدد من الدول التابعة للولايات المتحدة، عربية وأجنبية، لم يضف شيئاً جديداً للمنظومة المعرفية، خاصة ان «الاردن» تحديداً يلبّي كلّ ما يطلب منه، وجهوزيته لإنشاء قواعد عسكرية اميركية عند الطلب. دلالة على ذلك ما نقله الصحافي الشهير بوب وودوورد عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية، جورج تينيت، في كتابه «حالة انكار.» اذ قال تينيت لمرؤوسيه في البيت الابيض «نحن أنشأنا جهاز المخابرات الأردنية العامة، والآن هو في قبضتنا» او مُلكنا .
ورد في التقرير مسألة غاية في الاهمية تتعلق بزوج من الاخصائيين في علم النفس، متعاقديْن مع الوكالة المركزية، بروس جيسين وجيم ميتشيل، قيمته 80 مليون دولار، اقتتصرت مهمتهما على بلورة برنامج متكامل لسبل التحقيق مع المشتبه بهم «للاعتراف بالتهم بالإكراه،» على رأسها التعذيب «بالحرمان من النوم لفترات زمنية طويلة… والإيهام بالغرق.» وشارك الثنائي مباشرة في إحدى جلسات استجواب المتهم «ابو زبيدة،» عام 2002.
تمّ الكشف عن خطورة دور ذاك الثنائي من قبل الصحافي الشهير جيمس رايزن، في كتابه بعنوان «ادفع اي ثمن: الجشع والسلطة والحرب اللامتناهية،» والذي يواجه حكماً قضائياً بالسجن لعدم إفصاحه عن مصادره. تعززت الأهمية أثناء إعداد التقرير بين ايديكم اذ «فجأة» أصدرت المحكمة قرارها ببطلان الدعوى الحكومية المرفوعة ضدّ رايزن، 12 كانون الاول، ويرجح نشر التقرير الرسمي الذي يحدّد هوية الثنائي اخصائي التعذيب كحافز للقرار.
في الساعات القليلة عقب صدور التقرير، اصدرت «الجمعية الاميركية للطب النفسي» بياناً عاجلاً تنفي فيه عضوية الثنائي المذكور. الجمعية متطوّرة في التعامل مع الوكالة المركزية في عدة مستويات، مما حفز مجلس إدارتها على تعيين محقق خاص، الشهر الماضي، للنظر باتهامات تواطؤ الجمعية مع وكالة الاستخبارات والبنتاغون وتأييد «الحرب على الارهاب» ومراكز التعذيب المنتشرة حول العالم.
اصدرت ادارة الرئيس اوباما عام 2009 قراراً بإغلاق مراكز الاعتقال وإلغاء برنامج التحقيق التابع للوكالة المركزية، واكبه إنشاء «فريق استجواب المعتقلين ذو قيمة عالية،» تضمّن ممثلين عن مختلف الاجهزة الاستخبارية والأمنية، تحت إشراف مجلس الأمن القومي. لا يزال معتقل غوانتانامو قائماً، ورفض الكونغرس تنفيذ قرار الرئيس. نسوق ذلك للدلالة على حجم المراوغة والتضليل الرسمي المتبع في المؤسسة الحاكمة.
في الماضي القريب، شكل مجلس الشيوخ الاميركي لجنة تحقيق برئاسة السيناتور فرانك تشيرتش، عن ولاية آيداهو، عام 1975 للنظر في مسؤولية وكالة الاستخبارات المركزية عن عمليات الاغتيال عبر العالم، لا سيما في اميركا اللاتينية آنذاك، وتجسّس الأجهزة الأمنية على المواطنين الاميركيين دون الحصول على قرار قضائي مسبق.
نال تشيرتش اهتماماً إعلامياً فريداً آنذاك رفع من اسهمه السياسية، كما هو الحال الراهن مع السيناتور دايان فاينستاين. قدمت لجنة تشيرتش توصيات تقضي بتجريم الوكالة وإنهاء برامج اغتيالاتها، والإقلاع عن التجسّس داخل الولايات المتحدة. استمرّ الوضع الى ان كشف ادوارد سنودن عن تجاوزات وانتهاكات خطيرة تقوم بها وكالة الأمن القومي، التي لم يعرف عدد كبير من ممثلي الكونغرس وجودها في تلك الاثناء.
الدور «الاسرائيلي» في برامج التعذيب الاميركية
جاء في التقرير الرسمي انّ وكالة الاستخبارات المركزية استندت الى التبرير القانوني «لاسرائيل» الذي يتيح استخدام سبل التعذيب، دلّت عليه مذكرة صادرة عن فريق الادّعاء العام للوكالة تشير بوضوح الى «النموذج الاسرائيلي… كمبرر قانوني» لممارسة التعذيب.
الصحف «الاسرائيلية،» من بينها «هآرتس،» اشادت باستناد الوكالة الى قرار «المحكمة الاسرائيلية العليا» بمنع التعذيب واجازته في حالات محدّدة. النموذج «الاسرائيلي» المذكور يشير الى جملة من التوصيات قدّمتها لجنة لانداو عام 1987 تتيح إحداها لأجهزة الشرطة والأمن «الاسرائيلية استخدام ضغوط بدنية معتدلة» ضدّ المعتقل. أقرّت المحكمة العليا «بجواز استخدام عدد من اساليب الاستجواب ، لكنها تستدعي تبريرا قانونيا بشكل ما.»
تفاخر «اسرائيل» والتعاليم التلمودية بانها منارة مشعّة بين دول العالم، بيد انّ تقنين التعذيب يقوّض مصداقية ادّعاءاتها اما وكالة الاستخبارات المركزية فلم تكن بحاجة للإشارة الى «النموذج الاسرائيلي» كونها مارست وتمارس وقد تنخرط في أساليب تعذيب متعددة، كما يشهد عليها سجلها الدموي عبر العالم.