«إسرائيل» والسعوديّة وباكستان تقوم على أسس دينيّة وتوظّف الدين ورموزه في إشعال النزاعات
صدر كتاب «البعد الديني في العلاقات الدولية… الماهية والتأثير» للدكتور عصام عبدالشافي، في منشورات «وحدة الدراسات المستقبلية» في مكتبة الاسكندرية ضمن سلسلة «مراصد»، ويرى المؤلف أن حيال ما شهده العالم من تحولات وتطورات، سار معظمها في اتجاه ترسيخ الأبعاد الدينية والثقافية والحضارية في مختلف التفاعلات الدولية، أضحت العلاقة بين الدين والسياسات الخارجية للدول، وخاصة الفاعلة منها، من أهم قضايا العلاقات الدولية. ويقول: «إن معظم الصراعات والحروب في العقد الأخير من القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادثي والعشرين، شغل الدين موقعاً محورياً فيها، وتحولت العودة إلى الدين ظاهرة اجتماعية وسياسية وأمنية، وأصبح العالم المعاصر يشهد بعثاً دينياً يؤثر في مختلف جوانب الحياة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات، وصارت الحركات الدينية في معظم أنحاء العالم تطرح شعوراً جديداً بالهوية والانتماء، وأضافت العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة إذ بدأت الدول تتخلى عن كثير من وظائفها وسيادتها لمصلحة العديد من الأطراف الأخرى داخلياً وخارجياً»، لافتاً إلى أنه «لدى رصد أدوار الدين وتوظيفاته في العلاقات الدولية، يبرز دوره في التعبئة السياسية، وكمصدر من مصادر الشرعية السياسية، وأداة لتبرير الخطاب السياسي والاجتماعي، كما تم استخدامه كأداة للتغييرات السياسية، وتحقيق التوازن السياسى بين الجماعات المختلفة، وأيضاً كإطار أيديولوجي وأداة لبعث الحيوية السياسية والاجتماعية للشعوب في إطار مناهضة التحلل والتفكك والفساد والانهيار، إلى جانب دوره كحائط صد دفاعي في مواجهة نفاذ القوى الخارجية»، موضحاً أن ما أفرزته التحولات الدولية التي شهدها العالم في الربع الأخير من القرن العشرين، من تفكك المجتمعات إلى تفريعات جديدة تدور حول هويات دينية ومذهبية وقومية ولغوية وعرقية مختلفة، ترتب عليه «دعم الدور الذي يلعبه الدين في العلاقات الدولية، باعتباره مكوناً رئيساً في السياسة الخارجية للعديد من الدول، كالمملكة العربية السعودية، وباكستان، و«إسرائيل»، كما تزايدت عمليات توظيف الدين ورموزه وتفسيراته في العلاقات الدولية . خاصة في النزاعات والصراعات حول الهوية والمصالح والحدود والقيم، وأيضاً في بناء التحالفات الدولية».
في ضوء ذلك، ترتبط الأطر النظرية والمنهجية في الدراسة بمفهومي «الدين» و»السياسة الخارجية» وأنماط التفاعل بينهما، وما يثيره هذا التفاعل من قضايا ومتغيّرات وأبعاد تحليلية ومنهجية. تلك الأبعاد تناولها عبدالشافي عبر ثلاثة مستويات: الأول مفهوم الدين والمفاهيم التي يتداخل معها والتي كانت محطّ اهتمام في إطار حقل العلاقات الدولية، والثاني يتناول موقع الدين في العلاقات الدولية وتأثيره في تطور الحقل، بينما يتناول المستوى الثالث تأثير الدين في دراسة السياسة الخارجية وتحليلها، لكون هذه السياسة من المستويات الفرعية للعلاقات الدولية».
إذ يرتبط البعد الديني في العلاقات الدولية بالعديد من التيارات البحثية، يعالج عبدالشافي طبيعة العلاقة بين الدين والقيم والأيديولوجيا والثقافة والحضارة والتأثيرات المتبادلة بينها، من خلال ثلاثة مباحث، الأول حول الدين وموقع القيم في دراسة العلاقات الدولية، والثاني حول الدين وموقع الأيديولوجيا في دراسة العلاقات الدولية، والثالث حول الدين بين الثقافة والحضارة في دراسة العلاقات الدولية، ليتبنى ختام دراسته تعريفاً إجرائياً للدين في إطار العلاقات الدولية يقوم على ما تعتنقه الفواعل التى تقوم عليها هذه العلاقات ـ رسمية أو غير رسمية، وتؤمن به، من مبادئ وأحكام ومعايير، تضبط ممارساتها ـ فكراً وسلوكاً، قولاً وفعلاً ـ وتحكم توجهاتها، سواء أكانت تلك المبادئ أو الأحكام والمعايير مستمدة من رسالات سماوية أو من رؤى فلسفية وأيديولوجية أو موروثات ثقافية أو تاريخية أو اجتماعية، أو توجهات شخصية». بينما يتمثل «الديني» في كيفية نقل تلك المعتنقات إلى الواقع الفعلي ممثلاً في العمليات والقضايا التي تقوم عليها تلك العلاقات».
يقول الباحث إن ثمة عوامل واعتبارات دفعت في اتجاه تنامي الاهتمام بالبعد الديني/الثقافي في العلاقات الدولية، منها أولاً تأثير مراجعة تيارات الحداثة، إذ فشل جهود التحديث التي قادتها الدول الغربية في دول العالم الثالث، ما أدى إلى تنامي دور الدين. كما أن التحديث وإن قلل من شأن أساليب الحياة التقليدية فإنه كان يقف عقبة أمام القيم والأخلاقيات التي تقوم على الدين، وبالتالي فإن هذا التراجع في دور التحديث وأهمية النظر إليه كان لمصلحة إحياء دور الدين. فالتحديث ضاعف تأثير كل من الدولة ومؤسساتها من ناحية، والمؤسسات الدينية من ناحية أخرى، ورافق ذلك نوع من الصدام بينهما. كذلك ساعدت الاتصالات الحديثة وتطور وسائل الإعلام الدولية في تسهيل نقل الجماعات الدينية أفكارها وانتشار تأثير هذه الأفكار على غيرها من الجماعات الدينية الأخرى في مناطق أكثر اتساعاً عبر العديد من دول العالم، وكذلك تعدد المنظمات الدينية التي تساهم في النشاط السياسي على المستويات الإقليمية والدولية. ثانياً طبيعة التحولات الدولية، إذ شهد النصف الثاني من القرن العشرين بروز الدوافع الدينية بوضوح في العلاقات الدولية، وتمثل ذلك في العديد من المؤشرات، مثل قيام عدد من الدول على أسس دينية باكستان و«إسرائيل» ، وتعدد الجماعات والتيارات الدينية العابرة للقوميات، وبروز اصطفاف عالمي للديانات الكبرى في ثمانينات القرن العشرين في مواجهة الاتحاد السوفياتي والشيوعية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تحول الاهتمام خلال فترة التسعينات إلى مجادلة أُطروحات اليمين الأميركي حول «صراع الحضارات» و»الإرهاب» بين «الغرب» و»الإسلام»، وغدت الصراعات الأمنية والعسكرية ذات جذورٍ ثقافيةٍ. ثالثاً تأثير بعض الحوادث السياسية التي أدت إلى الاهتمام بالخطاب الديني في التعبئة السياسية وفي صنع السياسات الخارجية لبعض الدول، كما حدث في توظيف العمليات العسكرية الأميركية ضد العراق 1990 و2003 ، وأخيرا تصاعد العمليات الإرهابية واستخدام تلك العمليات لإنتاج المزيد من الصور النمطية السلبية حول الإسلام كديانة وعقائد وشرائع وقيم وثفافة، وحول واقع المسلمين واتجاهاتهم الدينية والفكرية. ومن أكثر تلك العمليات تأثيراً حوادث الحادي عشر من أيلول 2001، في الولايات المتحدة الأميركية، إذ كان لها العديد من الانعكاسات على تطور العلاقات الدولية. رابعاً توظيف البعد الديني لتحقيق المصالح الإستراتيجية، إذ ارتبط تصاعد الاهتمام بالبعد الديني/ الثقافي وتأثيره في العلاقات الدولية. في جانب منه، بوجود دوافع سياسية مرتبطة بمصالح القوى الدولية، وفي إطار تحليل هذه الدوافع وبيان تأثيرها في تطور العلاقات الدولية، برز اتجاهان رئيسان: الأول يرى أن الدوافع التوظيفية للبعد الديني/ الثقافي هي التي تحدد تأثيره، فالحديث عن الثقافة والحضارة والدين في الخطاب الغربي اقترن بمراحل التحولات الكبرى في التاريخ وبالغرض منها سياسياً، فإذا كان القرنان 15 و16 يشكلان مرحلة التأسيس لأوروبا الحديثة فإنهما يشكلان أيضاً مرحلة التأسيس للعلاقات غير المتكافئة من العالم الإسلامي والشرق، والتي تطورت إلى رأسمالية توسعية تعتمد على الحروب والاكتساح والسيطرة. فرغم بروز مشروع حضاري عالمي خلال القرنين 19 و20، فإنه يعبر عن مصالح القوى والدول الرأسمالية الصناعية المهيمنة على العالم، في ظل سيطرة ثقافة الاستهلاك ومعاييرها القيمية الأحادية الجانب. فالعوامل الاقتصادية والاجتماعية تشكل المرجعية الحقيقية للحوادث الدولية، وهي لا تدلّ على تأثير متزايد لعوامل الثقافة والحضارة والدين، فهذه العناصر اعتبرها الخطاب الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر خصوصيات ثقافية وتم توظيفها في السياسات الغربية حيال المجتمعات الأهلية. وإذا كانت هذه العناصر تتصاعد أهميتها الآن فإن هذا التصاعد هو تعبير عن توتر ومخاوف وهواجس جماعية ناجمة عن عوامل كثيرة لا علاقة لها بالثقافة أو الحضارة أو الدين، كالفقر وسوء توزيع الثروة والاختلالات الديموغرافية والبطالة والخلل في توزيع السلطة والصراعات الأهلية والأزمات الاقتصادية. أما الاتجاه الثاني فهو التأكيد على استخدام البعد الثقافي لحماية مصالح القوى الكبرى وأهدافها. الاهتمام بالعلاقة بين الحضارات وإحياء البعد الثقافي الحضاري تتجسد فيه صراعات جديدة للقوة واختبار توازنات القوى، لأن دور العوامل الاجتماعية والثقافية برز أو تجدد بروزه في العلاقات الدولية بالمقارنة بالبروز السابق للعوامل التقليدية السياسية ـ الاستراتيجية التي حازت الأولوية، حتى نازعتها الصدارة منذ مطلع السبعينات، العوامل السياسية ـ الاقتصادية.
إن واقع العلاقات الدولية الراهن يطرح تحدياً كبيراً على العديد من دول العالم، ولا يقتصر على «الواقع» بل يمتد إلى «الإطار القيمي» الذي يحكمه والمنبثق عن منظومة القيم والمصالح الغربية الرأسمالية فالحديث عن انتشار الرأسمالية، والديموقراطية وقيم الثقافة الغربية وسلوكياتها، والربط بين الديموقراطية والتنمية من ناحية، وتحقيق السلام والأمن والاستقرار في العالم من ناحية أخرى يتم في أدبيات العلاقات الدولية الغربية من منظار أحادي، على نحو يثير التساؤل عن المشروع الحضاري البديل ومن يمكن أن يطرحه الآن. كما أن تصاعد دور البعد الديني في العلاقات الدولية في مرحلتها الراهنة لا يعني تجاهل الأبعاد السياسية والعسكرية والاقتصادية وتأثيرها في إيجاد الظروف التي تشجع صانعي القرار للبحث عن، أو على الأقل التعاون، مع جهود التفاوض المبنية على أسس دينية. ومن الضروري لدى تبني تطبيق المداخل الدينية على العلاقات الدولية التأكيد على أن أنماط الجماعات والمؤسسات الدينية يجب أن تؤخذ في الاعتبار في ظل التنوع في التجارب والقدرات والخبرات التي تقدمها.