بين الأهداف والنتائج… «المعارضة السورية» تسقط!
د. أشواق أيوب عباس
لم يكن من قبيل المصادفة أن تنطلق ثورات ما بات يعرف ظلماً بـ«الربيع العربي»، تحت يافطات وعناوين الحرية والديمقراطية و«الشعب يريد». فهذه العناوين الجاذبة والمغرية للوجدان الشعبي والوطني تعكس بلا شك جانباً مهماً من طبيعة الخلل البنيوي في تطور الدولة العربية المعاصرة.
غير أن تطوّر الحوادث التي شهدتها سورية في السنوات الثلاث المنصرمة، أخذت تميط اللثام بالنسبة إلى كثر ممن كانت لديهم الصورة مشوّهة، عن طبيعة الحرب التي تشن على الدولة السورية. وبات واضحة لفئة واسعة من هؤلاء أن دعاة التسليح والتدخل الخارجي في «المعارضة السورية»، ودعاة التحالف مع «الشيطان» لإسقاط النظام، ليست لهم أدنى علاقة بمطالب الشعب بل بأجندات إقليمية ودولية تهدف إلى إسقاط سورية الدولة والدور والتاريخ. وهي أجندات لم تعد خافية على كل ذي عقل وبصيرة.
أفسحت فترة السنوات الثلاث الماضية المجال أمام كثر ليروا بأعينهم ما لم يروه سابقاً رغم بساطته ووضوحه أو ما لم يكونوا راغبين في رؤيته، من مفارقات وتناقضات في سلوك «المعارضة السورية» وخطابها، وخاصة في نسختها المهيمنة التي يعبر عنها الجربا وائتلافه.
مع تطورات الحوادث المتسارعة في سورية، وسُعار الحرب المجنونة التي تطال مستويات الحياة كافة في هذا البلد، ينقلب السحر على الساحر في مفارقات هزلية ومأسوية تكشف الأبعاد الحقيقية لما يحصل على الأرض.
مفارقات تتوالى الواحدة تلو الأخرى في خضم صراع سياسي على سورية، كان المطلوب منه تشويه «النظام» كمقدمة لضربه وإسقاطه، في مقابل تبييض وجه «المعارضة» الخارجية التي استجلبت من كل حدب وصوب، في توليفة غريبة من نوعها، تجمع متناقضات عجيبة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. تبييض كان الهدف منه تقديمها كبديل ناصع في نظام «فاسد».
في هذا السياق يمكن الإشارة بخاصة إلى عدد من العناوين الأساسية التي اتضحت منذ بداية الحوادث في سورية، إنما حصل قفز من فوقها، أو تمّ تجاهلها، أو نُظر إليها بعين حولاء، فكانت النتائج على الأرض مناقضة للعناوين الرئيسية التي طرحتها «المعارضة»، في مفارقات صادمة للرأي العام السوري.
من هذه المفارقات الهزلية نوعية الأهداف المنشودة التي طرحت من الحرية والديمقراطية. والمفارقة هنا أن هذه الأهداف تُطرح وتدعم من دول عربية رصيدها فارغ تماماً منها، ومن دول كبرى لا تزال ذاكرة السوري غضة من جراء سياستها الاستعمارية وعدائها المعلن ضد بلده. فأن تقف ممالك الخليج ومشيخاته إلى جانب «المعارضة»، وأن تؤيد مطالب الشعب السوري في الحرية والديمقراطية، وحقه في اختيار نظامه السياسي. والحقيقة أننا نستطيع تصوّر أي أمر، إلاّ أن نتصور دعم هذه «الدول» تلك المطالب. إذ كشفت سنوات الأزمة الثلاث أن وقوف دول الخليج إلى جانب المعارضة السورية كان في جوهره وقوفاً ضد سورية الدولة أولاً، وأن حماستها واستماتتها في تبني «المعارضة السورية» ما كانتا سوى تعبير عن إدراكها حقيقة سورية بكونها دولة مدنية وحاملة مشروع قومي عربي. فذلك بات يشكل في وعي دول الخليج خطراً حقيقياً على وجودها واستمرارها بصيغتها المتخلفة الراهنة. هنا تبرز المفارقة التالية، أن ما أنتجته «المعارضة» بدعم من تلك الدول والمشيخات حول أهدافهم المنشودة في الحرية والديمقراطية على الأرض السورية لم يكن سوى إهدار قيمة الإنسان واستلاب أمانه وتقييد حريته واستبدال الديمقراطية والقيم المدنية بمسخ «متطرف» عنها يعلن إلغاء الآخر والعمل على إنشاء دولة الخلافة على أيدي أكثر التنظيمات إرهاباً وتطرفاً.
عنوانٌ آخر يظهر من خلال الشعار الأبرز الذي سوقته «المعارضة» عبر الشاشات الإعلامية، التي سُخرت لها، من أن الشعب السوري واحد. وبالتطبيق على الأرض أنتجت خطاباً وفعلاً تحريضيين، يقصي جميع الأطراف الرافضة له ويكفرها، ويمارس المجازر الوحشية في حق العديد من الطوائف، ويهدد بتصفية الباقي. وما حدث في كسب مجرد نموذج من عشرات النماذج الأخرى.
من المفارقات أيضاً اتهام «النظام» بأنه يستولي على السلطة، وبأن أهداف «المعارضة» هي الانتقال بالبلاد إلى دولة تعددية يتساوى فيها الجميع. لكن التطبيق على الأرض، خاصة في المناطق التي سيطرت عليها المجموعة الإرهابية، أنتج بدائل دموية تسيطر فيها جماعات أصولية متطرفة تطبق «الشريعة الإسلامية» مثلما تفهمها هي، وتفرض فيها على المسيحي اعتناق الإسلام بالقوة، أو دفع الجزية، وتمارس أشد أنواع التمييز بين المرأة والرجل، وتقيم المحاكم الإسلامية بدلاً من القضاء وسيادة القانون. حتى أن المناطق التي تسيطر عليها باتت توصف بقندهار، نظراً إلى تدهور الحياة فيها وانتشار القتل والسلاح.
يضاف إلى ذلك الشعار الأبرز لثورتهم المزعومة، والمتمثلة في قولهم «الشعب السوري» يقود ثورته، ليتضح لاحقاً أن ثوّراهم وعناصرهم جُلبوا من أصقاع الأرض كافة، من أكثر من ثمانين دولة، ليقودا الشعب السوري ويحددوا له مستقبله!
من المفارقات الصادمة للوعي والوجدان السوري هذا التقرب المبتذل الذي عبرت عنه المعارضة السورية غير مرة من «إسرائيل»، ودعوتها من خلال بعض رموزها الديمقراطية إلى مساعدتها في التخلص من «النظام». فـ«إسرائيل» عدو الأمس باتت اليوم «صديقة» سورية، بحكم العدو المشترك بينها وبين «المعارضة»! مفارقة تجسد أدنى مستويات انحطاط «المعارضة» الخارجية، ومتاجرتها بالقيم الوطنية والأخلاقية المتجذرة في وعي السوريين. فلأجل الوصول للسلطة باتت القيم كلّها مستباحة! وقد يقول البعض إن هذه التصريحات خرجت من البعض، كاللبواني مثلاً! إلاّ أن ما يدحض هذا التبرير هو صمت «المعارضة» الخارجية بجميع فصائلها وعدم إعلان رفضها أو تسجيل أي موقف، ما يؤكد عدم اعتراضها على ذلك.
إن تفسير المفارقات السابقة وغيرها الكثير مما أفرزته «الثورة»، يمكن تفسيره بنوعية «المعارضة» التي فصلت خارجياً على مقاس الأهداف الحقيقية لها. فالمُطيَةُ أي «المعارضة» جُهزَت على عجل. استجلبت من هنا وهناك وأُلبست فاخراً ودُرِبَت على أيدي اختصاصيي علم الكلام والدبلوماسية، على متى تفتح فمها ومتى تغلقه. ومسرح العمليات في سورية وخارجها بات جاهزاً لبدء العرض الأقوى في عروض «الربيع العربي» الذي سَيُسدَلُ الستار معه عن سقوط القلعة الأكثر حصانةً في الممانعة والمقاومة. بعد ذلك يَترُكُ المُخرِجُ الدولي لبقية اللاعبين في المنطقة توقع نهاياتهم لو فكروا، في سريرتهم، أن يحذوا حذو سورية في مواقفها، وقرارها السياسي.
مُطيَةُ حملت اسم «المعارضة»، ليس لها من اسمها شيئ، لا شكلاً ولا مضموناً، لا فكراً ولا ممارسةً، جاهزة لتسليم البلد على طبق من ذهب للغرب و«إسرائيل»، مقابل إيصالها للسلطة ووضعها على كرسي الرئاسة.
سوداوية هذه الصورة لـ»المعارضة» أبرزت بشكل واضح الدولة السورية كعنصر خلاص وحيد بات السوريون يعقدون عليه الأمل، خاصة في ضوء ما تبذله الدولة من جهود مضنية جداً للحفاظ على الخدمات الأساسية للمواطن في ظروف حرب تعجز معها الدول الأخرى عن تأمين متطلبات مواطنيها، وتقابلها محاولات مستميتة من «المعارضة» لمنعها.